مقتل قاسم سليماني: ماذا يعني للعراق؟

مقتل قاسم سليماني: ماذا يعني للعراق؟

بعد سنوات من العنف، يعيش العراق اليوم على حافة هاوية إراقة مزيد من الدماء ومزيد من عدم الاستقرار. لقد شهد البلد احتجاجات مناهضة للحكومة لمدة أشهر لقيت استجابة عنيفة من قبل الحكومة والميليشيات. وكانت أهم نتائج هذه الانتفاضة – إقالة رئيس الوزراء وأدت إلى حكومة تصريف أعمال. وفي نفس الوقت يواجه البلد أيضا تمرداً من قبل تنظيم “داعش” وهجمات من قبل الميليشيات الشيعية على القوات الامريكية المتمركزة في البلد.

يواجه العراق اليوم تحدياً كبيراً بعد قتل القوات الامريكية للجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب قائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في الثاني من كانون الثاني والذي وضع العراق في خطر تهديد محتمل جديد. إن استيعاب البدائل المحتملة للتصعيد بين إيران وأمريكا مهم لمستقبل استقرار العراق.

يبدو القرار الأمريكي لقتل سليماني والمهندس قد جاء مباشرة بسبب سلسلة من الأحداث التي تطورت بسرعة. فقد قامت كتائب حزب الله وهي ميليشيا عراقية ترتبط بروابط وطيدة مع إيران بشن سلسلة من الهجمات الصاروخية استهدفت القواعد الامريكية في العراق تبعتها محاولات لاحقة من قبل كتائب حزب الله وأنصاره لمهاجمة السفارة الامريكية في بغداد كانتقام على القصف الجوي الأمريكي ضد أهداف كتائب حزب الله. ويعتقد أن قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال سليماني كان فعالاً في توجيه عمليات الميليشيات الشيعية في العراق وفي المنطقة ضد الأهداف الامريكية.

يعكس تواجد كتائب حزب الله في العراق التحدي الأكبر الذي يواجهه العراق من تواجد عدد كبير من الميليشيات الموالية لإيران في البلد. وفي حين أن البعض من هذه الميليشيات الشيعية العراقية تأسست لمحاربة “داعش”، فان هذه المجاميع المدعومة من قبل إيران تركز جهودها الآن على دعم الأهداف الإيرانية بما في ذلك الجهود المبذولة لطرد القوات الأمريكية من البلاد. إن إزالة التواجد الأمريكي من العراق يعد حيوياً لتحقيق الأهداف الإيرانية الأخرى في العراق مثل ترسيخ سيطرتها الجزئية على سياسة العراق واستغلال العراق كحجر أساس في استراتيجيتها لبناء الهلال الشيعي في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

وحسب الأحداث الأخيرة، يبدو العراق على انه الساحة الأكثر احتمالاً لتزايد مستوى الصراع بين الولايات المتحدة وإيران. ومن المؤكد أن العراق ليس المكان الوحيد المحتمل لإيران لمهاجمة المصالح الامريكية. والخيارات الأخرى تشمل الهجمات الإلكترونية ضد الولايات المتحدة، ضرب حلفاء الولايات المتحدة مثل السعودية و/ أو إسرائيل، وشن هجمات ضد المدنيين الأمريكيين في الشرق الأوسط أو هجمات ضد السفن في الخليج. وعلى الرغم من أن تلك الهجمات قد تُظهر عزم إيران في مواجهة الولايات المتحدة، إلا أنها من غير المحتمل أن تساعدها على تحقيق هدفها الأكبر المتمثل بإعادة تشكيل موازين القوة لصالح إيران في الشرق الأوسط.

اختارت إيران الرد على الغارة الامريكية التي نفذتها طائرة بدون طيار وأسفرت عن مقتل سليماني، حيث هاجمت قاعدتين أمريكيتين في العراق خلال الساعات الأولى من يوم 8 كانون الأول/ يناير بصواريخ باليستية أطلقت من إيران. وفى حين كان الهدف من الهجوم الصاروخي هو إظهار عزم إيران وقوتها، إلا انه لم يكن مصمم لجلب رد فعل قوى من قبل الولايات المتحدة.

ومما زاد من هذا الاتجاه غير التصعيدي، أن إيران قد أبلغت الحكومة العراقية أن الصواريخ قادمة وحذرت أيضًا العديد من المستشارين العسكريين الأجانب في القواعد العسكرية. وبالتالي، كان هناك متسع من الوقت للقوات الأمريكية، التي حُذرت من الهجوم القادم من قبل شركائها الأجانب، للاحتماء والتأكد من أن الهجوم الإيراني لن يسفر عنه أي ضحايا أمريكيين.

وفي الواقع، لم يكن القصد من هذا الهجوم على القواعد الأمريكية في أربيل وعين الأسد هو قتل الأمريكيين، بل كان يهدف إلى استرضاء الأصوات المحلية في إيران التي تدعو إلى الانتقام وإظهار قوة حلفاء إيران في المنطقة. ويشير هذا الإجراء الانتقامي الأولي إلى أن التوجه الرئيسي لرد إيران على الهجوم الأمريكي على مقتل سليماني سيكون سياسيًا وليس عسكريًا، كما يشير أيضا إلى أن التوجه الرئيسي لأي انتقام إضافي سيكون موجهًا في الأساس للعراق.

وبصرف النظر عن هذا الهجوم الذي جاء مباشرة من إيران، ما زالت إيران تمتلك الخيار لمتابعة هجماتها عبر وكلائها وذلك في حال تم تصعيد الموقف مرة أخرى. وبالنسبة لإيران فإن الهجوم على القوات الامريكية في العراق من خلال وكلائها هو امر منطقي من اجل مصالحها الاستراتيجية. وأن القيام بذلك يظهر عزماً يمكن اعتباره ردعاً ضد المزيد من النشاطات الامريكية، والأهم هو وضع ضغط سياسي على التواجد الأمريكي في العراق. وإذا قامت الولايات المتحدة بمزيد من الإجراءات لاستهداف أهداف إيرانية أو أهداف عراقية مدعومة إيرانياً، فإن ذلك سيثير الغضب داخل العراق على الولايات المتحدة لانتهاكها سيادة العراق وقتل مواطنين عراقيين. والآن فان الولايات المتحدة تواجه بالفعل قراراً من البرلمان العراقي لإخراج الجيش الأمريكي من العراق. على الرغم من أن هذا القرار غير ملزم قانونياً ومن المحتمل أن تتلوه المزيد من الجهود القانونية الملزمة للحكومة، فإن طرد الولايات المتحدة من العراق سيكون انتصاراً استراتيجياً للأهداف الإيرانية الرامية للهيمنة على العراق وبناء الهلال الشيعي في الشرق الأوسط.

حتى الآن، يبدو أن الرد الأمريكي على تلك الهجمات الأخيرة كان تصالحيًا، حيث ركزت تصريحات الرئيس ترامب في خطابه المتلفز للشعب الأمريكي في 8 كانون الأول / يناير إلى حد كبير على توجيه دعوة للحكومة الإيرانية للتفاوض والوصول إلى تسوية مقبولة للطرفين. وعلى الرغم من أن كلا البلدين من المرجح أن يستغلا حالة وقف التصعيد الحالية كفرصة للتقدم نحو اتفاق سياسي يلبي مصالحهما، إلا أنه لا يوجد ما يضمن نجاح تلك الجهود. وإذا فشلت هذه الجولة من وقف التصعيد، فمن المحتمل أن يصبح العراق، مرة أخرى، مسرحا للمنافسة العنيفة بين الولايات المتحدة وإيران.

وفى حالة فشل المسار الدبلوماسي، هنالك أربعة سيناريوهات من المحتمل أن تحصل حتى تضمن إيران حماية مصالحها في العراق. جميع هذه السيناريوهات تعتمد على حسابات القيادة الإيرانية والأمريكية حول كيفية حمايتهم لمصالحهم بشكل أكبر في العراق وفى المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، سيحرص الطرفان على تجنب دفع ثمن سياسي محلي يجعلهما يبدوان ضعيفين في مواجهة أحدهما الآخر.

السيناريو الأول- خطر جدا على جهة إيران – وهو أن تقوم الحكومة الإيرانية بالانتقام من خلال الضغط المتصاعد بشكل كبير على التواجد الأمريكي في العراق. قد تتضمن هذه الجهود استخدام صواريخ أكثر تطوراُ ومميتة ضد القواعد الامريكية. وحتى محاولات لاجتياح هذه القواعد والسفارة الامريكية في البلد. كانت البعض من الميليشيات الشيعية في العراق تستلم صواريخ إيرانية متطورة خلال الأشهر الماضية القليلة ومن المحتمل انه تم تزويد هذه الصواريخ لإمكانية حدوث مثل هذا السيناريو.

في حين أن مثل هكذا سيناريو سيدعو بالتأكيد إلى رد عسكري أمريكي قوي ضد المليشيات الشيعية المهاجمة في العراق، وأهداف محتملة في إيران- حيث أن التغريدة الأخيرة للرئيس ترامب هددت فان مسار العمل من المحتمل أن يستهدف مجموعة من الأهداف الإيرانية. ستظهر الحكومة الإيرانية لمؤيدي النظام في إيران والخارج بأنها لن تنحني للضغط الأمريكي وبأن تصعيد العنف سوف يضع ضغطاً على الولايات المتحدة من العراقيين المطالبين برحيل الولايات المتحدة الامريكية من البلاد بدلاً من المخاطرة بحرب شاملة هناك. في حين انه من المحتمل أن تعاني إيران من خسائر على المدى القصير خلال فترة الانتقام الأمريكي المحتمل بعد التصعيد، فإنها ستفكر بأن إخراج القوات الامريكية من العراق سيكون انجازاً ثميناً للهدف الإيراني المركزي.

هناك سيناريو آخر محتمل هو أن تقوم الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق بالقيام بتحركات للانتقام من القوات الامريكية في البلاد من دون تصعيد حقيقي. سوف يتحقق هذا التأثير من خلال مواصلة هجمات صواريخ الكاتيوشا قليلة الأضرار نسبياُ التي استخدمتها الميليشيات في الأشهر الماضية، وذلك تماشيا مع الضربة الإيرانية غير المميتة التي حدثت في السابع من كانون الأول / يناير.

من المحتمل طبعاً لهذا السيناريو بأن يكون التوجه الأساسي للتدابير الانتقامية الإيرانية ضد الولايات المتحدة في مكان آخر غير العراق. ومع ذلك، إن تكلفة ثمن هذه الخطة على إيران ممكن أن تكون بحجم الهجوم على القواعد الامريكية في العراق، كما أن من المحتمل أن تفكر إيران بأن العائد الطويل الأمد الذي ستجنيه هو الانسحاب الكامل للولايات المتحدة من العراق. لكن إذا لم تقم الولايات المتحدة بانتقام قوي داخل العراق فانه من غير المرجح أن يكون هناك ضغطاً كافياً لإزالة التواجد الأمريكي هناك. السيناريو الثالث هو ملء المساحة المشتركة بين الاستراتيجيتين السابقتين: فهو قد يشتمل على هجمات صواريخ متطورة ومميتة على قواعد القوات الامريكية في العراق من دون بذل جهود لاجتياح القواعد الامريكية. كما يتضمن خليط من الهجمات الإيرانية بأشكال مختلفة على المصالح الامريكية خارج العراق. من شأن مجموعة من الهجمات متعددة الأوجه من قبل إيران أن تظهر اصراراً قوياُ على ردع الولايات المتحدة من استهداف مصالح إيرانية عليا أخرى والاستجابة للدعوات المحلية للانتقام من الولايات المتحدة. وبينما من المرجح أن يجلب هذا الخيار رداً عسكرياً من قبل الولايات المتحدة ولكنه اقل من اجتياح أو تدمير أو إنهاء المنشآت الامريكية.

ومع ذلك، فمن الممكن أن تختار إيران تجنب الرد العسكري تماماً وتعتمد على الضغط السياسي فقط. ووفقاً لهذا السيناريو الرابع فسيتم استثمار حلفاء إيران السياسيين الأكثر قوة في البلاد كما يتضمن مزيجاً من التهديدات والوعود التي تستهدف السياسيين العراقيين لإجبارهم على إخراج القوات الامريكية من البلاد. وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية يجري تطبيقها الآن إلا أنه يمكن لإيران أن تزيد من ضغطها لضمان التزام الحكومة العراقية لإخراج القوات الامريكية من البلاد. إن حلفاء إيران هم بالفعل في موقع جيد لمثل هكذا خيار، وان الارتفاع المفاجئ للغضب المناهض لأمريكا الذي سببته الهجمة ضد سليماني والمهندس – إلى جانب النفوذ الإيراني القوي في سوق الإعلام العراقي- سيعزز مثل هذا الخيار.

إن هذه الاستراتيجية التي تركز على السياسة فقط هي الأقل خطورة بالنسبة للإيرانيين، حيث انه سيكون من الصعب على الحكومة الامريكية أن تبرر الهجمات على الميليشيات العراقية الحليفة المرتبطة بشكل وثيق مع إيران أو الأهداف الإيرانية بحد ذاتها كنتيجة للضغط السياسي لمغادرة العراق. من الناحية الأخرى، من الصعب الانتقام لمناصري إيران على مقتل سليماني من خلال هذه الاستراتيجية لكن الرغبة في تجنب الانتقام العسكري الأمريكي الشاق ربما تفوق المخاوف السياسية الإيرانية. مع ذلك، من الممكن أن يدفع العراقيون ثمناً غالياً مقابل هذه الاستراتيجية. ففي حين أن من غير المرجح أن تقوم الولايات المتحدة الامريكية بمهاجمة الميليشيات لكنها قد تفرض عقوبات على العراق، كما أن جهود محاربة “داعش” ستهدد نتيجة مغادرة القوات الأمريكية. من جهة أخرى فإن إيران أيضاً ستعاني من العقوبات المفروضة على العراق لأن السوق العراقية مهمة جداً لإيران. لكن كما يبدو فإن النظام الإيراني والقوات الموالية له في العراق على استعداد لتحمل هذه التكاليف من اجل إزالة التواجد الفعلي للولايات المتحدة في العراق.

لا تريد الحكومة الامريكية ولا الحكومة الإيرانية حرباً شاملة بين بلديهما. وقد وعدت إدارة ترامب بإخراج الولايات المتحدة من الحروب في الشرق الأوسط وأي مكان آخر كما أن الحكومة الإيرانية لا تستطيع تحمل مزيداً من الضائقة الاقتصادية بسهولة. إن مثل هكذا صراع سيكون مكلفاً للغاية لكلا الدولتين، ومن غير المرجح لأي طرف تحقيق نصر سريع وحاسم.

وفى نهاية المطاف، يشير ذلك إلى أنه من صالح الدولتين الجلوس على طاولة المفاوضات والتوصل لاتفاق. وحتى يتم التوصل لهذا الاتفاق، فسوف يستمر العراق بالمعاناة من القوى الخارجة عن سيطرته. هذه الفترة هي من اشد الفترات خطورة التي شهدها العراق منذ غزو عام 2003، وتواجه حكومة تصريف الأعمال تحدي حاجة البلد إلى قيادة ثابتة ومقتدرة تستطيع قيادة العراق.

منقذ داغر

معهد واشنطن