قبل بضعة أشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية في العراق في 1 تشرين الأول 2019 نشر صحافي عراقي مقالاً لاذعاً تحت عنوان “هل العراق ورقة تتقاذفها الريح؟” كي نجيب عن هذا السؤال يجدر فحص جذور المشكلات في العراق البعثي، والدوائر المغلقة التي يتحرك فيها منذ قيامه، والتأثير المحتمل للانتفاضة الأخيرة على مستقبل الدولة.
لقد خلق احتلال الولايات المتحدة وحلفائها للعراق في 2003 توقعات عالية لسياقات الإشفاء الاجتماعي، والتحول الديمقراطي، والرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي. أما عملياً فقد أحدثت هذه الخطوة هزة عظيمة لم يشهد العراق مثلها منذ قيامه في العام 1920؛ ففي أعقاب الحرب وقعت انتقالة حادة من حكم السنة الذي يعود إلى مئات السنين، إلى حكم الشيعة. وكان معنى الأمر هو أن تقاليد الحكم في الدولة انتقلت إلى شيعة عديمي التجربة، بينما السنة الذين سلبت منهم مكانتهم التاريخية يواصلون التحرك بدوافع تهدف إلى محاولة إعادة الدولاب إلى الوراء بكل سبيل ممكن.
وثمة انتقال مفاجئ وحاد آخر كان من الدكتاتورية عديمة الكوابح إلى ديمقراطية مهندسة من فوق، لم يعبر السكان الذين يفترض أن يحملوها على أكتافهم في السياقات الطويلة والبطيئة التي كان يفترض أن تعدهم لهذا العبور. وهناك تغيير مهم آخر هو العبور من سلطة مركزية إلى سلطة موزعة بينما يصعب على بغداد العاصمة إقامة إدارة سليمة في الأجزاء المحيطة من الدولة. وكان جزء من التحول الكبير هو العبور من حزب حاكم واحد ووحيد، هو حزب البعث، إلى تعدد من الأحزاب والفصائل التي تتصارع فيما بينها على نيل القوة والنفوذ. وما شدد الفوضى في الدولة بقوة أكبر حل جيش صدام حسين الذين ضم في ذروته نحو مليون جندي وإقامة جيش معد على عجل، شكل ضعفه الكبير أرضاً خصبة لصعود ميليشيات شيعية تسمى الحشد الشعبي التي تخضع في قسمها الأكبر لإمرة إيران.
وهناك مشكلة بنيوية أخرى يعاني منها العراق، وهي دوائر العنف التي لا تنتهي، ويسير فيها وتخلف ندباً عميقة في المجتمع العراق. وعلى مدى ثلاثة عقود من النظام البعثي، شهد سكان العراق ثلاث حروب هي الأصعب في تاريخه: الحرب الإيرانية العراقية (1980 – 1988)، وحرب الكويت وآثارها (1990 – 1991) والحرب في 2003. ولكن حتى بعد الحرب الأخيرة لم يعد السلام إلى العراق، إذ اندلعت الحرب الأهلية التي تواصلت حتى 2008 وأدت إلى صعود المنظمات السنية الفوضوية: القاعدة ودولة الإسلام في العراق والشام (داعش)، التي زرعت الدمار والفوضى في الدولة. أما الدائرة الأخيرة التي نوجد في ذروتها فهي الانتفاضة التي تدور منذ نحو ثلاثة أشهر ولا نرى نهايتها حتى الآن.
للانتفاضة الحالية مزايا خاصة جديرة بالإشارة، تتمثل الأولى بالصراع في داخل ما يسمى “البيت الشيعي”، أي صراع الشيعة ضد الشيعة، بينما ينظر الأكراد والسنة من الجانب ولا يشاركون فيه، والثانية هي الصراع بين من يعرفون أنفسهم كوطنيين عراقيين وبين الشيعة العراقيين المؤيدين لإيران. كما توجد مناكفة خفية بين التيار المؤيد لإيران والتيار المؤيد لأمريكا. كقاعدة توجه الانتفاضة الشعبية ضد كل مؤسسات الدولة التي تعتبر عفنة وفاسدة حتى الأساس. وقد سار المنتفضون بعيداً، يطالبون بتغيير جذري لنظام الحكم، بما في ذلك إلغاء الدستور للعام 2005 الذي ثبت التوزيع الطائفي لأدوات الحكم. ولم يتردد المنتفضون في اتخاذ خطوات حادة ضد رموز الحكم، وبالمقابل اتخذت الميليشيات وأجهزة الأمن خطوات عنيفة أدت إلى موت أكثر من 500 شخص. وإلى ذلك يجري صراع على مستويات عديدة على الهوية الوطنية والدينية، وعلى وسائل السيطرة في الاقتصاد والجيش، ومؤسسات الحكم وتوجه الدولة.
إن العنصر “الوسيط” اليوم بين المنتفضين ومؤسسات الحكم هو الزعيم الشيعي الأعلى آية الله علي سيستاني المؤيد على طول الطريق لمطالب المنتفضين. عنصر آخر يظهر حضوراً بارزاً ويعزز قوته في أعقاب الفوضى السائدة في الدولة، هو قيادات العشائر التي تحاول ملء الفراغ السلطوي الذي نشأ مع استقالة رئيس الوزراء عبد المهدي، والشلل الذي يصيب البرلمان وعدم القدرة على الوصول إلى تسوية حول السبل لإيجاد حل للمشكلات العميقة للدولة.
مع يعقد المشاكل البنيوية بقوة أكبر هو أن العراق عالق في توتر بين قوتين خارجيتين عظيمتي القوة، ليس له القدرة على التحكم به أو حسمه بينهما. فمن جهة، تقف الولايات المتحدة التي فتحت صندوق مفاسد ولا تعرف كيف تخرج منه. وحتى وقت أخير مضى كانت إرادة ترامب هي الانصراف من العراق في ظل تقليص الأضرار على الولايات المتحدة ومحيطها، ولكن الأمور تدحرجت بخلاف إرادتها. ومن جهة أخرى سعى إيران إلى مواصلة توسيع نفوذها قدر الإمكان. عملياً، تواصل طهران الحرب الإيرانية العراقية بوسائل أخرى: السيطرة على الدولة بواسطة “القوة الرقيقة” وتحويلها إلى ما يسمى بالإنجليزية “Frenemy” (العدو الصديق)، وبعد عشرين سنة من الحرب تحولت إيران من عدو لدود إلى صاحبة السيطرة الأكبر في العراق.
ومؤخراً، ارتفع الصراع بين الولايات المتحدة وإيران درجة للسيطرة على العراق، عندما تطورت مواجهة جبهوية في ذروتها بين قوات عراقية مؤيدة لإيران، والولايات المتحدة. وفي أعقاب هجوم الميليشيا المؤيدة لإيران على قاعدة أمريكية أدى إلى وفاة مقاول أمريكي وإصابة عدد من الجنود الأمريكيين، هاجمت الولايات المتحدة في 29 كانون الأول 2019 قاعدة لمنظمة كتائب حزب الله المدعومة من إيران، وتسببت بموت 25 من رجال الكتائب. بعد وقت قصير من ذلك، حاصرت ميليشيات مؤيدة لإيران من الحشد الشعبي السفارة الأمريكية في بغداد وزرعت الدمار في محيطها دون أي محاولة من الجيش العراقي لمنع ذلك. ومع أن رجال الميليشيات انسحبوا بعد يوم من مجال السفارة، ولكن رد إدارة ترامب لم يتأخر. في 2 كانون الثاني 2020 كان الرد بقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس، والمسؤول عن أعمال الحرس الثوري الإيراني خارج إيران، وقتل معه تسعة أشخاص آخرين بينهم نائب قائد الحشد الشعبي الذي يدعى أبو مهدي المهندس.
لقد أشارت الانتفاضة الشعبية بوضوح إلى تبلور وطنية عراقية – شيعية مناهضة لإيران، وبالمقابل، إلى تعزيز قوة التيار المناهض لأمريكا المطالب من الولايات المتحدة سحب قواتها من الدولة. السؤال الأكبر هو أي قوة من هذه التيارات ستتغلب. مثلما تبدو الأمور الآن، ليس بوسع المعسكر المعارض لإيران إبعادها عن كل مراكز القوة التي احتلتها في أرجاء الدولة. بل ومن الصعب أن تتخلى إيران عن النفوذ السياسي والاقتصادي والاستراتيجي الذي حققته منذ عشرات السنين. ومع ذلك، من الصعب أن نرى إدارة ترامب -مع كل إرادتها للانصراف من العراق- تتخلى في هذه النقطة بعد أن تحدتها طهران ومؤيدوها بهذا الشكل الخطير. وعليه، فطالما استمر الصراع بين إيران والولايات المتحدة على أرض العراق، سيصعب على الدولة الوقوف على قدميها، فما بالك أن ليس للمنتفضين بديل متبلور وواضح لمشاكل الدولة البنيوية!
في مقال نشره المحلل الشيعي سجاد تقي كاظم، مؤخراً، ادعى أن “الأزمة في العراق لا تنبع من كونها دولة موحدة يراد تقسيمها، بل دولة منقسمة يراد توحيدها بالقوة”. ومشورته هي أن يسير كل واحد من أقسام العراق الثلاثة في طريقه، كون هذا ما يجري عملياً. وبالفعل، فبينما ظل العراق في ذروة أزمة غير مسبوقة، فإن المنطقة السنية هادئة جداً، بينما الإقليم الكردي يزدهر، الأمر الذي يمكنه أن يحقق جدول الأعمال لحل من الفيدرالية العراقية. ولكن بعد الأحداث الأخيرة، يبدو حل مشكلات العراق أبعد من أي وقت مضى.
القدس العربي