في مقالي السابق قدمت وجهة نظر رائجة على نطاق واسع وهو أن الدور الإيراني لم ينته بعد في الشرق الأوسط، وأنه ما زال دجاجة تبيض ذهباً للعم سام. أما اليوم فسأقدم وجهة نظر أخرى ترى العكس تماماً، وهو أن عصر إيران قد ولّى، وأن الأمريكي والإسرائيلي قد اختارا منفذاً جديداً للمشروع الصهيو أمريكي في المنطقة يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية بطريقة أفضل وأنظف، ألا وهو الروسي. ويرى أصحاب هذا المنطق أن ملامح الشرق الأوسط الجديد بدأت تتضح رويداً رويداً، مع اعتماد زعماء النظام العالمي وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، سياسة حديثة يعملون من خلالها على بلورة نظام حديث لقيادة للشرق الأوسط برمته، ليقدموا من خلاله حليفاً لدول المنطقة كافة على طبق من ذهب، بعد أن أرعبوهم لعقود خلت بهالة الخطر الإيراني، فأرهقوا الجميع بداية، وها هم اليوم انطلقوا لتحجيم الدور الإيراني الذي تجاوز الخطوط الحمراء وكسر الحدود، في معادلة ربما لم نر مثلها منذ قرن من الزمن.
لن أحدثكم اليوم عن أحلام الشعوب المطالبة بالحرية والتحرر من قيود الديكتاتورية، ولن أتطرق إلى الأنظمة المعادية للربيع العربي، ولا إلى تلك الحروب التي لم تكن سوى غطاء للمشروع الأشمل، دعونا من القشور، ولندخل إلى أعماق ما يحاك للمنطقة، ونتحدث عن المخطط الأكبر والأخطر على الشرق الأوسط برمته، والمعنون بتنصيب القيصر الروسي على عرش إدارة المنطقة، كرجل ظل للولايات المتحدة الأمريكية وطبعاً إسرائيل، وخادم لهما.
مع دخولنا عام 2020، ولجنا فعلياً في مرحلة تحجيم الدور الوظيفي لإيران، الذي تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له من قبل زعماء النظام العالمي، ولا أخفيكم سراً إذا ما قلت لكم إن طهران كانت على بعد خطوات قليلة فقط من استعادة الامبراطورية الفارسية، بعد أن سيطرت على أهم وأقوى محاور الشرق الأوسط تأثيراً ألا وهي العراق، سوريا، لبنان، فلسطين، اليمن.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية، سارعت وعلى عجل للقضاء على زعيم هذا المشروع قبل أن يتكلل بالنجاح، وتصل إيران إلى المياه الدافئة في المتوسط، فقامت بتصفية «قاسم سليماني»، الذي يعتبر الأب الروحي لهذا المشروع، وبقتله أعادت إيران إلى المربع الأول، وحطمت حلمها، وهنا وبكل تأكيد، فالقادم سيكون أشد قوة على الشخصيات التي كانت مساندة لسليماني، ويمكننا القول، هذا العام هو عام ترويض إيران مجدداً، وهنا عليكم الانتباه، نقول ترويض، ولا نقول إنهاء وجود نظام الحكم فيها، بمعني آخر إعادة ترتيب دورها الوظيفي وبالتالي استمرار أحوال العرب على ما هي عليه.
ما تحدثنا عنه أعلاه، هو ضرورة لفهم واستيعاب اللاحق منه، فإيران لم تُستخدم لترهيب الشعوب العربية فقط، بل اُستخدمت كمسار واسع المجال لدخول الدب الروسي بكل قوة إلى الشرق الأوسط بترتيبات أمريكية- إسرائيلية صرفة، بعد أن اتفق الأمريكي والإسرائيلي معها على تسليمها إدارة المنطقة الغارقة بالفوضى والدماء، وكذلك بعد المحافظة على مواقع الثروات الباطنية في كل الدول المشتعلة، لتمارس موسكو العنتريات على الشعوب الضعيفة، وتمكّن للأنظمة الديكتاتورية، وهذا في المناسبة لا يعني للأمريكان والإسرائيليين أي شيء، فما كان يهمهم أصبح بجعبتهم، أما البقية فهي تفاصيل ثانوية.
روسيا ستقود دول المنطقة، وتعيد ترتيبها وفق المخططات الأمريكية- الإسرائيلية، أما الثروات الباطنية، بطبيعة الحال هي تحت الوصاية الأمريكية المباشرة، ولتبع روسيا بعضاً من أسلحتها التي تكدست لسنوات دون وجود طالبين لها
روسيا لم تكتف بحدود سوريا الجغرافية فقط، بل الولايات المتحدة الأمريكية مهدت لها الطريق لدخول الخليج العربي الذي يشتهر بالمنطقة الخضراء لواشنطن، بداية عندما أمرت واشنطن حكام الإمارات بتمويل العمليات العسكرية الروسية في سوريا، وحتى دفع مرتبات الجنود الروس وقواعدهم، ثم دفعت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للاتصال بالرئيس الروسي، وتحقيق تعاون معه على أصعدة عدة، بعد ذلك، جاء الدور على مصر، التي وقعت وحصلت بدورها على أحدث المقاتلات الحربية الروسية وكذلك الحوامات العسكرية.
كل هذه التطورات ليست عبثية، ولم تحصل بسبب قوة روسيا، ولا نجاعتها السياسية، بل لأن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تريدان، زعيماً واحداً متفقاً عليه من قبل الجميع لترتيب أوراق الشرق الأوسط كما يخططون، فهل سيجدون أفضل من روسيا الهزيلة المتعطشة لتحقيق أحلامها القيصرية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لتنفيذ هذا المشروع؟
إذاً، روسيا هي من ستكون مايسترو الشرق الأوسط، تجمع الجميع تحت ظلالها أعداء وحلفاء، ولا ننسى طبعاً، بأن العراق يدرس اليوم بكل جدية استملاك المنظومات الصاروخية الحديثة «أس- 300، وأس- 400»، فهل تصدقون أن بغداد تستطيع فعل ذلك بدون ضوء أخضر أمريكي؟ كما أن عقوبات تضليلية قد تأتي لاحقاً كما فعلوا مع تركيا، التي أصبحت هي الأخرى تسبح وتهرول في المعسكر الروسي، رغم أنها من كبار حلف «الناتو»؟ ولا ننسى طبعاً، وجود مفاوضات لضم روسيا إلى مجموعة السبعة الكبار في العالم.
واليوم نرى روسيا تقود الملف الليبي بذات القوة التي قادت فيها الملف السوري، وبطبيعة الحال هي المعلم الأكبر للنظام الإيراني، وهنا يبقى السؤال.. من تبقى خارج ظلال القيصر الروسي؟ الجواب لا أحد.
بالمختصر، روسيا ستقود دول المنطقة، وتعيد ترتيبها وفق المخططات الأمريكية- الإسرائيلية، أما الثروات الباطنية، بطبيعة الحال هي تحت الوصاية الأمريكية المباشرة، ولتبع روسيا بعضاً من أسلحتها التي تكدست لسنوات دون وجود طالبين لها.
وما يلفت الانتباه أيضاً، أن حالة التطبيع العربي مع إسرائيلي تراوح مكانها، رغم ما قيل ويقال عن تطبيع هنا أو هناك، تبقى أحلام تل أبيب في السيطرة على الشرق الأوسط بعيدة، ضمن هذه الحالة، ومع وجود القيصر الروسي، سيكون كل شيء أسلس.. أسهل.. أسرع!
إسرائيل سوف تسيطر على كامل الشرق الأوسط، ولكن بطريقة غير مباشرة، بمعنى آخر، ستوصي الروس القيام بذلك نيابة عنها، وسوف تقوم إسرائيل بتطبيع كامل مع العرب عبر موسكو، وبالتالي تستغني عن أي مواجهة مع شعوب المنطقة، قد تؤخر مخططاتها.
فيصل القاسم
القدس العربي