في 17 كانون الثاني/يناير، أمّ المرشد الأعلى علي خامنئي صلاة الجمعة في طهران، للمرة الأولى منذ ثماني سنوات. وتزامن قراره بترؤس الشعائر الدينية -السياسية التي تكتسي أهمية مع احتجاجات شعبية جديدة انطلقت بعد أن أقرّ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني بإسقاطه عن طريق الخطأ طائرة أوكرانية الأسبوع الماضي. وكان النظام قد تنصّل سابقاً من مسؤوليته عن الحادثة، ليعود ويغيّر موقفه بسبب ضغوط دولية هائلة. وانصب تركيز خامنئي الآن على التحوّل إلى السيطرة على الأضرار قبل الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها الشهر المقبل.
الدور السياسي لصلاة الجمعة
تحمل إمامة صلاة يوم الجمعة في العاصمة رمزيةً خاصة تكون مخصصة عادةً إلى لحظات ترغب خلالها أعلى سلطة في الجمهورية الإسلامية في إيصال رسالة مهمة إلى الشعب. إن الدور السياسي (والمسرحي) لهذا الطقس الديني مثبت بواقع أنه يُطلب ممن يؤم الصلاة التلويح بسلاح بغية التركيز على القوة العسكرية للبلاد والموقف المتصلّب تجاه الأعداء.
ووفقاً لإيديولوجيا النظام، يتمتع المرشد الأعلى بالسلطة الحصرية على هذه الشعائر، بما في ذلك الحرية بأن يؤمها بنفسه أو يوكل الأمر إلى ممثل له. وتاريخياً، كلّف القادة في الجمهورية الإسلامية والخلفاء السابقون رجال دين أوفياء يتمتعون بمهارات خطابية مبهرة بهذه المهمة. يُذكر أن آية الله روح الله الخميني، سلف خامنئي، لم يؤم الصلاة بنفسه يوماً، بل كلّف عدداً من الأتباع بذلك. في المقابل، عيّن خامنئي ستة رجال دين ليكونوا “أئمة مؤقتين لصلوات أيام الجمعة” خلال ولايته، لكن من دون التخلي عن حقه في تأدية هذا الدور متى اعتبر الأمر ضرورياً.
وفي آخر مرة قدّم فيها خامنئي خطبة يوم الجمعة في الثالث من شباط/فبراير 2012، فعل ذلك استجابة للضغوط الاقتصادية المتنامية محلياً ولقرار الحكومة بالتفاوض مع واشنطن بشأن البرنامج النووي. ومن بين رسائل أخرى، حذّر من أن واشنطن غير جديرة بالثقة قائلاً: “يجب ألا تخدعنا ابتسامة العدو ووعوده الكاذبة… نميل أحياناً في البداية إلى التصديق ولكننا ندرك تدريجياً ما الذي يجري وراء الكواليس… إنهم يخلّون بوعودهم من دون خجل”. كما تناول مسائل مرتبطة بالانتخابات البرلمانية التي جرت بعد خطبته – وهو وضع ينطبق على تعليقات هذا الأسبوع أيضاً.
لماذا الصعود إلى المنبر الآن؟
حين أعلن «الحرس الثوري» الإيراني في نهاية الأسبوع الماضي مسؤوليته عن حادثة إسقاط طائرة الرحلة 752 التابعة للخطوط الجوية الأوكرانية الدولية قبل ذلك بثلاثة أيام، خرج الناس في طهران ومدن أخرى إلى الشوارع للتعبير عن استيائهم من النظام – ليس فقط لتسببه بمقتل 176 مسافراً، ولكن أيضاً بسبب كذبه بشأن حادثة الثامن من كانون الثاني/يناير إلى أن تمكنت الضغوط من كندا والسويد وأوكرانيا وغيرها من الجهات الفاعلة من انتزاع اعتراف على مضض. وكان خامنئي نفسه قد اضطلع بدور في حملة التغطية هذه، متجاهلاً حتى ذكر تحطم الطائرة في تعليقات علنية أدلى بها بعد الحادثة.
في البداية، انصب تركيز النظام على إطلاق حملة إعلانية كبيرة من أجل البناء على الهجوم بالصواريخ البالستية على قواعد عراقية تضمّ قوات عسكرية أمريكية. وكان قد تمّ شنّ هذا الهجوم بعد ساعات من إسقاط الرحلة رقم 752 عن طريق الخطأ، وانتقاماً لإقدام الولايات المتحدة على اغتيال قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» الإيراني قاسم سليماني. وربما اعتقد القادة الإيرانيون أن قول الحقيقة بشأن تحطم الطائرة على الفور كان سيقوّض جهودهم لاستغلال الغضب الشعبي إزاء الولايات المتحدة إثر اغتيالها سليماني، مما سيُفسد بالتالي مسرحيتهم الانتقامية ويكذّب النظام. وعليه، بدلاً من شرح حادثة التحطم، نشرت وسائل الإعلام الحكومية صوراً لخامنئي وهو يشرف شخصياً على الضربة التي استهدفت القواعد العراقية، مصورةً إياه كقائد عسكري قوي وذكي ردّ بشجاعة على العدو من أجل حماية شعبه.
لكن سرعان ما تحوّل الحداد الوطني على سليماني إلى غضب على خامنئي، وهو شعور فجرته الإعلانات الأجنبية بشأن حادثة التحطم والبيانات المتناقضة الصادرة عن قادة «الحرس الثوري» وحكومة الرئيس حسن روحاني وكذلك عدم رغبة النظام في تحميل أي من المسؤولين الرفيعي المستوى مسؤولية هذه المأساة. وقد أفسد هذا التحوّل الجذري في المواقف العامة إلى حد كبير الجهود المركّزة التي بذلتها الدولة لحشد الناس للتنديد باغتيال سليماني ونقل صورة تُظهر شعبية وقوة محلية.
ومن خلال إمامة صلاة الجمعة في مثل هذه البيئة المشحونة، سعى خامنئي إلى معالجة أربعة مصادر قلق رئيسية. أولاً، يبدو أن النظام يدرك حالياً أنه كان لمقاربته الخادعة والمهينة إزاء مأساة الطائرة تأثير غير مقصود بإهانة عوائل الضحايا وانتهاك كرامتهم كمواطنين وإثارة الصدمة والغضب في أوساط الإيرانيين من كافة التوجهات الإيديولوجية والسياسية. كما أن الكثير من الناس الذين اعتادوا سابقاً دعم سياسات النظام بدون قيد أو شرط يجدون صعوبة الآن في تصديق مزاعمه ومسامحته على سلوكه، الأمر الذي يخلق فجوات واسعة في أوساط قاعدة قوته الاجتماعية ونخبته الحاكمة. وبخلاف احتجاجات البنزين التي اندلعت خلال تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تبيّن حتى الآن أنه يتعذر إصلاح الخطأ في السياسة الذي أجج الاضطرابات الحالية.
على سبيل المثال، يظهر فيديو مصوّر انتشر على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي الجنرال في «الحرس الثوري» الإيراني أمير علي حجي زادة وهو يدافع عن قرار النظام بإخفاء الحقيقة لمدة ثلاثة أيام. فبرأيه، لو أعلنت الحكومة عن خطأها في وقت سابق، لكانت قد أحدثت صدمة في أوساط الجنود وشتتت انتباههم عن واجباتهم الأساسية في وقت يشهد مواجهة حساسة مع الولايات المتحدة. لكن هذه الحجج لم تهدئ موجة الغضب السائدة. وحتى إذا توقفت هذه الاحتجاجات في نهاية المطاف، سينتاب أنصار النظام الرئيسيون على الأرجح شعوراً عميقاً بالارتباك والخيانة إثر هذه الحادثة، وهما شعوران قد يصعب تبديدهما.
ثانياً، أمل النظام أن تؤدي حملة القمع العنيفة التي شنها في تشرين الثاني/نوفمبر ومراسم التأبين المهيبة لسليماني في وقت سابق من هذا الشهر إلى إقناع المحتجين بعدم النزول إلى الشارع مجدداً. غير أن مأساة الطائرة أججت مرة أخرى رغبة المحتجين في التظاهر، ليس فقط للتعبير عن غضبهم إزاء الحادثة بل لتكرار مطالبهم الأساسية بالتغيير وإدانة أفعال المرشد الأعلى و«الحرس الثوري» الإيراني. وكانت شخصيات سياسية عديدة قد دعت علناً إلى استقالة خامنئي نظراً إلى دوره كقائد عام للقوات المسلحة، بمن فيها زعيم “الحركة الخضراء” مهدي كروبي والناشطة فائزة هاشمي ابنة الرئيس الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني. ورغم أن النظام قد يشن حملة قمع أخرى أو يزيد حدتها، من شأن هذه المقاربة أن تترافق مع سلسلة عواقب غير متوقعة وحتى قد تُحدث أزمة أكبر. وبالتالي، يواجه النظام معضلة خطيرة – فاستعمال العنف على نطاق واسع قد يزعزع الاستقرار، في حين أن التقاعس قد يُحدث الأثر نفسه. وقد لجأ خامنئي إلى صلاة الجمعة لانتهاج مسار وسطي في ظل هذه المعضلة.
ثالثاً، خشي المرشد الأعلى على الأرجح أن تؤدي الأزمات والاحتجاجات المحلية المستمرة إلى تعزيز الآمال بتغيير النظام في أوساط “أعداء” إيران، مما يدفعهم إلى زيادة الضغوط السياسية والاقتصادية. ومن وجهة نظره، من شأن هذه الضغوط أن تهدف إلى إرغام طهران على العودة إلى طاولة المفاوضات بموقف أضعف أو استبدال النظام بحكومة تميل أكثر إلى الغرب. وعليه، فعل كل ما يلزم لإنهاء الاحتجاجات، ولكن دون مفاقمة وضع محرج أساساً أصبح أشبه بالطلاق المرير بين الأمة والدولة.
رابعاً، بما أن الجمهورية الإسلامية تعتمد نظاماً شبه استبدادي، فلا يزال عليها إجراء انتخابات “لإثبات” شعبيتها وشرعيتها الديمقراطية. وبالتالي، أمل خامنئي في أن ينجح في فصل عملية التصويت البرلمانية المقررة الشهر المقبل عن غضب الشعب إزاء مأساة الطائرة. وقد عكست خطبته يوم الجمعة والأفعال اللاحقة [التي قد يقوم بها النظام] هذه الأولوية، لتضاف إلى الآلية التقليدية التي تعتمدها الحكومة للتلاعب بنتائج الانتخابات وتشريعها. ويعتمد النظام هذه الآلية أساساً بشكل كبير – فقد انتهج “مجلس صيانة الدستور” بصورة غير علنية هذا النمط القائم على تجريد أعداد كبيرة من المرشحين للانتخابات البرلمانية من أهليتهم وتحديداً أولئك الذين لا يظهرون ولاءهم المطلق بشكل كافٍ للمرشد الأعلى. ومع اقتراب يوم الانتخابات، سيتلاعب النظام بآليات إضافية لدعم مزاعمه بتسجيل نسبة اقتراع مقبولة (أي أكثر من 50 في المائة).
وقد بدّدت خطبة خامنئي يوم الجمعة كافة هذه المخاوف الملحة دفعةً واحدة: تحديداً من خلال التشديد على “التهديد الذي يطرحه العدو”، وسيادة الأمن المطلقة، والأهمية الحيوية لـ «الحرس الثوري» الإيراني في الحماية من هذا الخطر؛ ومن خلال مهاجمة الحملة الإعلامية الدولية “الظالمة” ضد حراس الأمة؛ ومن خلال التحذير من مخططات الولايات المتحدة وأعمالها التخريبية؛ ومن خلال تكرار رفضه التفاوض بسبب انعدام الثقة بالولايات المتحدة؛ ومن خلال تشجيع الناس على المشاركة في الانتخابات. في المقابل، لم يقم بأي خطوة تنمّ عن تواضع أو مساومة تجاه خصومه الداخليين أو الخارجيين. وقد شمل موقفه هذا المليء بالتحدي عدم طرد قادة «الحرس الثوري» على أثر حادثة الطائرة، وحتى منع القضاء من محاكمتهم.
مهدي خلجي
معهد واشنطن