سرّع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي من وتيرة توظيف عملية قتل قاسم سليماني باعتلائه لأول مرة منذ ثماني سنوات منبر الجمعة ليعدّد خصال فيلق القدس وزعيمه سليماني. في خطوة جديدة سعت لتلميع التاريخ الأسود للفيلق الحافل سجلّه بعمليات القتل وإشاعة الفوضى في منطقة الشرق الأوسط، هدفها محاولة إنقاذ النظام من السقوط وكذلك التغطية على تورط طهران في إسقاط الطائرة الأوكرانية.
طهران – فسّر الكثير من المتابعين عودة المرشد الإيراني علي خامنئي إلى اعتلاء منبر خطبة الجمعة بعد ثماني سنوات من الانقطاع على أنها تعبر عن مدى الإحباط الذي ينتابه بعد قتل ساعده الأيمن قاسم سليماني الذي كان لاعبا أساسيا في تصدير الثورة الإسلامية إلى دول كثيرة في منطقة الشرق الأوسط.
وانتهج خامئني خطابا حاول عبره استعادة أمجاد النظام بترديده عبارات من قبيل “أيام الله” عندما وصف دقة الرد الإيراني على الولايات المتحدة عقب ضرب القاعدة العسكرية عين الأسد بالعراق.
ووصف المرشد الإيراني لدى تطرقه إلى خروج الملايين لتشييع قائد فيلق القدس التابع للحرس الإيراني، كلّا من سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبومهدي المهندس بأنهما يمثلان “مدرسة إنسانية عظيمة”.
لكن خامئني حاول الإطناب في تعداد سمات سليماني دون أن يتطرق إلى تورط طهران في إسقاط الطائرة الأوكرانية ومقتل 176 مدنيا وكيف مزّق الإيرانيون صوره عقب هذه الحادثة.
وعلى عكس الصورة التي يروّجها المرشد الأعلى الإيراني عن فيلق القدس، فإن التاريخ يحفظ لهذا الجهاز ولقائده القتيل سجلّا هامّا من القتل والتدمير وإثارة الفوضى في دول كثيرة بالمنطقة كسوريا ولبنان والعراق واليمن.
ويمثل قتل سليماني ضربة موجعة للنظام الذي خسر العقل المدبر للتمدد في المنطقة، حيث تم قتله بعدما تصاعدت مخاطره التي دفعت واشنطن إلى إنهاء قصته، خاصة بعد تعهّده في يوليو 2018 بشن حرب غير تقليدية ضد القوات الأميركية في الشرق الأوسط.
سبق لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن وصف خطوة تصنيف الولايات المتحدة للحرس الثوري الإيراني على قائمة الإرهاب في أبريل 2019 بأنها تساوي بين سليماني وبين زعيم تنظيم داعش أبوبكر البغدادي.
وقال بومبيو بأن سليماني بات مطلوباً كما البغدادي. فهو إرهابي ويداه ملطّختان بدماء الأميركيين وكذلك الفيلق الذي يقوده، وأن واشنطن مصمّمة على منع قتل أي أميركي على يد فيلق القدس.
وتعيد أنشطة فيلق القدس إلى الذاكرة معارك اجتياح القوات الإيرانية للعراق في حرب الثمانينات بعنوان “طريق القدس يمر عبر كربلاء” رغم أنها كانت في الحقيقة لاحتلاله. ولا يمكن الفصل تاريخيا بين فيلق القدس وزعيمه قاسم سليماني، فخلال الحرب العراقية الإيرانية (1988-1980) قام الفيلق بعملياتٍ سرية داخل العراق ضد نظام صدام وتم التنسيق مع فيلق “بدر” برئاسة محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الذي أوكل قيادته إلى هادي العامري الذي قاتل مع سليماني في صفوف القوات الإيرانية ضد الجيش العراقي.
على المستوى الإداري، لدى فيلق القدس مكاتب في العديد من السفارات الإيرانية لا يسمح لمعظم الموظفين دخولها، وقد تم تقسيم قوات “القدس” إلى فئات محددة من “الهيئات” لكل بلد.
وتوجد مديريات تابعة للفيلق في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين والأردن وأفغانستان وباكستان والهند وتركيا والجزيرة العربية والبلدان الآسيوية والاتحاد السوفييتي السابق والدول الغربية (أوروبا وأميركا الشمالية) وشمال أفريقيا (مصر وتونس والجزائر والسودان والمغرب).
وتعد أولى المهمات الإقليمية ذات الأهمية للفيلق المساهمة في إنشاء “حزب الله” في لبنان عام 1982، ثم إنشاء حركات مسلحة في العراق كحزب الله العراقي الذي قاده أبومهدي المهندس.
وكان قاسم سليماني من المتحمّسين لتنفيذ شعار “تصدير الثورة” قبل قيادته لفيلق القدس وانضمامه للحرس الثوري عام 1980، حين نفذ عمليات القمع المسلح ضد الأكراد الإيرانيين على جبهة مهاباد الإيرانية عام 1979، وتطوعه في المشاركة بالحرب العراقية الإيرانية (1988-1980) حيث أصبح قائدا لفيلق “41 ثأر الله” بالحرس الثوري وهو في العشرينات من عمره ثم تمت ترقيته ليصبح واحدا من قادة الفيالق على الجبهات.
وبعد توليه قيادة فيلق القدس عام 1998، شارك في قمع انتفاضة الطلاب الإيرانيين عام 1999.
ووفقا لتحقيق نشرته صحيفة “نيويوركر” الأميركية أجراه الصحافي ديكستر فيلكين، فإن سليماني سعى منذ تسلمه قيادة فيلق القدس إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم طهران، وعمل كصانع قرار سياسي وقوة عسكرية تغتال الخصوم وتسلّح الحلفاء.
ومع مرور السنوات، بنى “فيلق القدس” شبكة دولية بعضها مستند إلى الإيرانيين في الشتات الذين يمكن استدعاؤهم لدعم المهمات، وآخرين من حزب الله والميليشيات العراقية التابعة للحرس الثوري.
وتمثلت مهمّات هؤلاء في تصفية المعارضين الإيرانيين في الخارج ومهاجمة أهداف في دول عربية وغربية.
واستناداً لمسؤولين غربيين أطلق “حزب الله” و”فيلق القدس” في عام 2010 حملة جديدة ضد أهداف أميركية وإسرائيلية في رد انتقامي على ما يبدو ضد الحملة على البرنامج النووي الإيراني التي تضمنت هجمات قرصنة عبر الإنترنت وعمليات اغتيال لعلماء نوويين إيرانيين.
ومنذ ذلك الحين نظّم سليماني هجمات في أماكن بعيدة مثل تايلاند، نيودلهي، لاغوس ونيروبي ما لا يقل عن 30 محاولة خلال عامي 2012 و2013 فقط.
وفي سوريا تم قمع الانتفاضة السورية عام 2012 حيث شاركت قوات فيلق القدس إلى جانب حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية في معارك عدة خاصة معركة القصير في محافظة حمص، وأشرف قاسم سليماني عليها بنفسه وتمكن من استردادها من المعارضة في مايو 2013. كما شارك بنفسه في عدة معارك منها في ريفي اللاذقية وحلب.
وفي العراق تولى سليماني قيادة ميليشيات الحشد الشعبي مع مستشارين آخرين من الحرس الثوري في المعارك ضد “داعش” ما بين 2014 و2017، وحرص على ظهوره في معركة استعادة مدينة آمرلي في محافظة صلاح الدين وكذلك مشاركته في معركة استعادة تكريت.
وكان هدف سليماني الإيحاء لأبناء تلك المناطق بأن إيران موجودة. وبالرغم من أن قيادات سياسية عراقية سنّية ندّدت بدوره في تحويل تلك المعارك وخاصة معركة تحرير الفلوجة إلى حرب طائفية في العراق، إلا أن الميليشيات الشيعية التابعة له وعلى رأسها الجماعات المتشددة الأكثر ولاء لنظام ولاية الفقيه في إيران ككتائب حزب الله أو ما يعرف بـ”النجباء” وكذلك سرايا الخراساني وجماعات أخرى كمنظمة بدر، وعصائب أهل الحق وغيرها أشادت بدوره وروّجت لأن إيران تقود من خلال سليماني مشروعا عالميا بقيادة الشيعة. وتكثفت العلاقة بين قائد فيلق القدس والقيادات الشيعية العراقية بعد تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء عام 2006 الذي قالت مصادر إنه كان يبيع يومياً 200 ألف برميل لصالح سليماني لتمويل أنشطة فيلق القدس الإيراني في العراق.
كما فتح المجال الجوي العراقي أمام الطائرات الإيرانية لإمداد نظام بشار الأسد في سوريا بالسلاح والمقاتلين والدعم اللوجستي منذ عام 2011، وقام أيضا بمساعدات مالية ضخمة للنظام السوري للحيلولة دون سقوطه اقتصاديا، وذلك بأوامر مباشرة من خامنئي نقلها سليماني.
ويقول قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط السابق الجنرال جيمس مات “إنه لولا مساعدة قوات نظام الأسد عبر فتح المجال الجوي العراقي للطائرات الإيرانية، لكان النظام السوري قد انهار منذ فترة طويلة”.
ومن المعلوم أن السفير الأميركي السابق في العراق زلماي خليل زاد كان قد كشف أن إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، تعاونت ونسقت مع قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، عام 2006 حول الوضع السياسي في العراق، مؤكدا أن هذا التعاون يمتد إلى مرحلة ما قبل صدام، مشيرا إلى أن اجتماعات سرية تمت بين طهران وواشنطن سبقت غزو العراق في 2003.
ولم يقتصر الإرهاب الإيراني في الخليج من خلال فيلق القدس على الأعمال التخريبية والتفجيرات ودعم الخلايا الإرهابية في السعودية، بل امتد إلى الكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة من خلال زرع خلايا مسلحة وشبكات تجسس لزعزعة الأمن والاستقرار في هذه الدول.
وفي لبنان تم وفق خطة قائد فيلق القدس تحويل المقاومة الوطنية اللبنانية إلى ما أسمته بالمقاومة الإسلامية التي جسّدها حزب الله الذي أعلن رسميا عن نفسه عام 1985، حيث أعلن زعيمه حسن نصر الله ولاءه المطلق لإمامه الخميني ومن بعده خامنئي.
ثم جاء اندلاع الثورة في سوريا ليكرّس سليماني نفسه مهندسا وقائدا فعليا للنفود السياسي والعسكري الإيراني، وكذلك بارتكاب المجازر في سوريا، فما عجز عنه خامنئي حققه سليماني بتوجهه إلى موسكو، وإقناعه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بضرورة التدخل العسكري لإنقاذ نظام بشار الأسد الذي كان يوشك على الانهيار.
لا يقنع خامنئي في مكابراته وتعداد خصال فيلق القدس إلا عددا قليلا من أنصاره داخل إيران وسط عزلة إقليمية ودولية. أما ما قام به سليماني من جرائم، فلا يمكن وصفه بالإنسانية سوى من قبل المعزول عن الواقع خامنئي نفسه.
العرب