لمْ تكسب الرؤية الإيرانية للتطورات في “غرب آسيا” مصداقيةً إضافيةً، بل خسرت الكثير منذ تبرَّع المرشد علي خامنئي بشرحها في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
في ذلك اليوم، أطلَّ خامنئي بعد أسبوعين على ارتكاب حرسه الثوري جرائم قتل نحو 1500 إيراني نزلوا إلى الشوارع احتجاجاً على زيادة أسعار المحروقات، وفي نهاية شهر على اندلاع الانتفاضة بالعراق ضد الأحزاب الحاكمة بدعم من إيران، وضد الهيمنة الإيرانية على البلاد، كذلك إثر بدء موجة الاحتجاجات في لبنان 17 أكتوبر (تشرين الأول) ضد سلطة الفساد والإفقار وعمودها الفقري المتمثل بتحالف حزب الله والتيار العوني بقيادة رئيس الدولة اللبنانية.
إطلالة خامنئي في ذلك اليوم كانت مِفصلية، فالرجل الذي قاد حملة الحرس الثوري لحسم اعتراضات الداخل المتصاعدة، رأى بأم العين أن استثمارات ذلك الحرس، بإشراف فرعه الخارجي (فيلق القدس) في “غرب آسيا”، باتت مهددة، ولا بدّ من وقف الخسارة ومنعها، ولو تم ذلك عبر ضرب التحركات الشعبية وقمعها على الطريقة الإيرانية… ومن ضمن المؤسسات!
ولا بدّ في السياق من التنبه إلى لجوء القيادة الخامنئية إلى الإصرار على تسمية بلدان المشرق العربي، العراق وسوريا ولبنان وغيرها، ببلدان “غرب آسيا”، في رغبة دفينة وعميقة بإلغاء الحيثية القومية العربية، أو الانتماء العربي لهذه البدان والمنطقة العربية المشرقية بأسرها، تماماً مثل الإصرار الخامنئي، وقبله الشاهنشاهي، على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي في إشعار مُسبق بالرغبة في وضع اليد على هذه المنطقة المهمة عربياً ودولياً.
لمْ يرَ خامنئي في مقاربته للتحركات الشعبية في العراق ولبنان وإيران سوى “أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة”، ووجّه بتحقيق المطالب “ضمن الأطر القانونية” في كل بلد.
في هذه النقطة بالذات، بدا المرشد واثقاً من إمساكه بمصير التطورات بالعراق ولبنان، على طريقة إمساكه “قانونياً” بمصير الاحتجاجات بإيران، ومصدر الثقة يستند إلى أمرين، أولهما اطمئنان المرشد إلى أن البُنى السياسية الرسمية في كل من العراق ولبنان باتت ممسوكة من جانب القوى الموالية إيران، وثانيهما أن قيادة لـ”غرب آسيا” قد تكرَّست على مدى عقدين بزعامة قاسم سليماني وإلى جانبه هيئة أركان تتفاوت مكانة عناصرها وأدوارهم، في إطار حشد شعبي عراقي، أو حزب لبناني ينسج تحالفات في سياق من الترهيب والترغيب مستمر منذ 2005.
تقدَّم حزب الله إلى معالجة الانتفاضة اللبنانية في الإطار العام الذي رسمه المرشد: المطالَب يجب العمل على تلبيتها ضمن المؤسسات، لكن ينبغي التنبه إلى التدخل الأميركي والإسرائيلي ومؤامرات السفارات.
هذا ما كرره أمين عام الحزب حسن نصر الله في إطلالات عدة، كان الهدف منها تصوير الانتفاضة في لبنان تدبيراً أميركياً ينبغي مواجهته، كما تجب مواجهته في العراق.
لماذا تحتاج إيران إلى قاسم سليماني في العراق ولا تحتاج إليه في لبنان؟
ولا يعود سبب المواجهة ووجوبها إلى اندلاع الانتفاضتين في لبنان والعراق، فتلك فرصة، إلا أن السبب الفعلي هو سعي إيران لتعزيز مواقعها في “غرب آسيا” في أعقاب ما اعتقدته تراجعاً أميركياً تجلّى في الانسحابات من شمال سوريا، وعدم الرد على إسقاط الطائرة المسيّرة فوق الخليج، والصمت على قصف مواقع أرامكو والاعتداءات على ناقلات النفط، والحديث عن انسحاب من العراق بعد انتهاء الحرب على “داعش”.
تشجَّعت القيادة الإيرانية، واعتقدت أنها يمكن أن تملأ فراغ الغياب الأميركي، ولم يكن ينقص سوى مزيدٍ من التعبئة ضد الشيطان الأكبر، وشيطنة تحرّكات شعوب المنطقة، ثم البدء بعمليات ضغط ملموسة اقترح بعضها حسين شريعتمداري ممثل خامنئي في مقالة نشرتها صحيفة “كيهان” نهاية أكتوبر (تشرين الأول)، دعا فيها “إلى احتلال السفارتين الأميركية والسعودية في بغداد”.
أزعجت انتفاضة العراقيين إيران إلى الحد الأقصى، وأربكتهم انتفاضة اللبنانيين، لكن ليس إلى الحدّ الذي بلغته الثورة العراقية على النفوذ الإيراني، وفِي لحظة محددة بدا أن دعوة شريعتمداري إلى احتلال السفارات وُضعت قيد التنفيذ، على وقع نشاط محموم يقوده قاسم سليماني بين بيروت وبغداد لفرض رئيسٍ جديدٍ للحكومة في كل من العاصمتين، وإنهاء الانتفاضة خصوصاً في العراق، عبر التركيز على أولوية طرد الأميركيين منه ومن المنطقة بأكملها.
قُطع هذا السياق في الضربة الأميركية التي قضت على سليماني، تحوّل نصر الله مسؤولاً عن ميليشيات إيران في “غرب آسيا”، مهمته توجيهها في خوض معركة إنهاء الوجود الأميركي، فغاب لبنان عن خطابه، واقتصر العالم على طرفين يتصارعان: إيران وأميركا، ومقياس الشرف الوقوف من دون شروط مع إيران.
لكنْ، ضربة سليماني لم تكن بهذه البساطة، إنها تحدٍّ مباشر لأعلى مستويات السلطة في إيران من جانب إدارة لا تُخفي مسؤوليتها، ولا تحيل أفعالها إلى مجهول، لقد خرج دونالد ترمب وأعلن بوصفه رئيساً لأميركا أنه أعطى الأمر بقتل سليماني، ولَحِقه وزير الخارجية مايك بومبيو محدداً المطلوب من إيران، ومحذراً من تحريكها أذرعها، وعندما ردّت إيران على اغتيال سليماني جاء فعلها مرتبكاً، وأدّى إلى فضيحة إضافية في إسقاط الطائرة الأوكرانية، وقتل مزيدٍ من الإيرانيين، ومحاولة إنكار المسؤولية في البداية، ثم الاعتراف اللاحق على وقع اندلاع موجة شعبية أحرقت صور سليماني بعد أيّام على أضخم تشييع يُنظّم في إيران لشخصية مثله.
حاول النظام الإيراني تحويل اغتيال سليماني إلى مناسبة حشد شعبي لتأييده وكسب مزيد من التأييد للمتشددين وتنظيم الحرس الثوري، إلا أن إسقاط الطائرة الأوكرانية على يد الحرس بالذات فجّر الشارع ضد خامنئي والحرس على السواء، وصدرت دعوات لرحيل المرشد على لسان معارضين معروفين، بينهم مهدي كروبي وفائزة رفسنجاني، ولَم تنجح محاولات تصوير القصف الإيراني على قاعدة عين الأسد العراقية نصراً إيرانياً أو ردّاً كافياً على ضربة سليماني.
اضطر خامنئي للمرة الأولى منذ 8 سنوات إلى الظهور في صلاة الجمعة وإمامة المصلين في محاولة لرأب الصدع الداخلي، وطلب التضامن من شعوب “غرب آسيا”.
حاول حصر الأضرار والتغطية على مسؤولية الحرس في إسقاط الطائرة، ودفع الجمهور إلى الاستعداد لانتخابات فبراير (شباط) المقبل النيابية، وهي انتخابات يُتحكّم بنتائجها سلفاً عبر إبعاد استنسابي لمرشحين غير مرغوبين.
إلا أن المفاجأة كانت لجوء خامنئي إلى التحدّث بالعربية، متوجهاً إلى العراقيين خصوصاً، والشعوب العربية عموماً، ورغم ولع المرشد حسب ما يُروَى عنه بلغة الضاد وكتاب الأغاني وجبران خليل جبران، فإن القادة الإيرانيين اعتادوا التحدّث بالفارسية حتى إلى أمة نبي الإسلام، ولم يشذ خامنئي عن القاعدة، غير أنه هذه المرة في 17 يناير (كانون الثاني) خصص جزءاً من خطبته باللغة العربية إلى العراق، معبراً عن خوفه من تنامي المشاعر المعادية إيران في هذا البلد، “إلا أن الشهادة الكبرى لـ(سليماني) أفشلت كل الوساوس الخبيثة”.
للمرة الأولى منذ سنوات بدت ثقة القيادة الإيرانية بنفسها مهتزة، خوفٌ من الداخل، وخوفٌ على “استثمارات” مديدة في “غرب آسيا”، وخشيةٌ دائمة من هراوة أميركية فوق الرؤوس، ولو تنبًه خامنئي لوجَّه كلمة باللغة الكردية، فكردستان أيضاً لم تقبل مشروعه لـ”تحرير” المنطقة من الوجود الأميركي.
طوني فرنسيس
اندبندت العربية