تهبّ رياحٌ عاتيَّة على منطقة الشرق الأوسط بدءاً من غرب آسيا إلى شمال أفريقيا والجزء الشرقي من حوض البحر المتوسط، منذرةً بسُحب كثيفة تتجمَّع وأمطار غزيرة قد تتساقط.
وإن كنتُ لا أميلُ إلى هذه النتيجة في الوقت الحالي، فالوضع شديد التعقيد بالغ الحساسيَّة، والتحالفات ليست كاملة، والمواقف متأرجحة، والولايات المتحدة الأميركيَّة تلعبُ على الحبالِ، والغرب الأوروبي يُبدي قلقه من تصرفات الرئيس التركي أردوغان، وتونس والجزائر تتحسبان للموقف وترفضان أي إنزال لقوات تركيَّة على أراضيها، ومصر تستعد لمواجهة عسكريَّة قد تُفرض عليها من خلال شريط حدودي يزيد طوله على ألف ومئتي كيلومتر، وترى أن ما جرى في ليبيا يمسّ أمنها القومي مباشرة، وهذا صحيح.
بينما نُذرٌ أخرى تُوحي بمواجهة عسكريَّة شاملة مُحتملة بين إيران والولايات المتحدة الأميركيَّة، خصوصاً أن ترمب بعد اغتيال قاسم سليماني يريد أن يدخل عالم الانتخابات الأميركيَّة على حصان أبيض، وهذا قد يدفعه إلى تكثيف الضربات الجويَّة التي يُمكن أن تكون متبادلة بين إيران والقوات الأميركيَّة في المنطقة أو التي يتم استدعاؤها في حينه.
ورغم أنَّ هذا الاحتمال ليس كبيراً، خصوصاً أننا تعوّدنا من الولايات المتحدة الأميركيَّة في الفترة الأخيرة أنها تهدد إيران، ثم تضرب العرب! وهذه السحب العابرة والغيوم القاتمة ليست جديدة على المنطقة، فقد شهدناها في الحرب الفلسطينيَّة الأولى عام 1948 التي خرجت منها إسرائيل بدولة مستقلة، ثم ما جرى في أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وسُحب المواجهة التي عبرت سريعاً على المنطقة عام 1958، وما بعدها عندما كانت المواجهة بين التيار الناصري والقوى الأجنبيَّة المناوئة تستعرض قواها على أرض لبنان بانتهاء حكم الرئيس الأسبق كميل شمعون، ثم كان المطر الغزير الذي أطاح التجربة الناصريَّة، وقوَّض دعائم المشروع القومي، وانتقل بالمنطقة مباشرةً إلى المشروع الإسلامي بكل ألوانه وأطيافه عام 1967.
وها نحن الآن في مفترق الطرق بين خيارات متباينة، فإمّا أن تسود روح الاعتدال وتبرز الحكمة لدى كل الأطراف دون مواجهات لا مبرر لها، خصوصاً أن الشعوب هي التي تدفع الثمن في النهايّة، وإمّا أن تتصرف بعض الأنظمة برعونة وبدوافع ميول استعراضيَّة لقواها على الأرض وفي عرض البحر مثلما هو متوقعٌ من احتمالات المواجهة التركيَّة المصريَّة قرب حقول الغاز في شرق المتوسط.
ويضاف إلى ذلك تعثّر بعض الملفات الجانبيَّة، ومنها ملف المفاوضات المصريَّة الإثيوبيَّة بشأن سد النهضة، ومحاولات أديس أبابا فرض الأمر الواقع دون سند من القانون الدولي أو الشرعيَّة التي تحكم قانون الأنهار في العصر الحالي.
لذلك، يهمنا أن نفصّل هنا الآفاق والأبعاد المتصلة بالرياح التي تهبّ من الشرق والعواصف القادمة من الغرب واحتمالات المواجهة في أي بقعة من الشرق الأوسط الكبير، ونفصِّل ذلك في النقاط التاليّة:
أولاً: يجبُ أن نفرّق هنا بين مدلول الأزمة ومفهوم المشكلة، فالفارق بينهما يتمثّل في المساحة الزمنيَّة التي تحتلها كل منها، فالأزمة قد تكون عابرة وقابلة للحل السريع، أمَّا المشكلة فغالباً ما تكون أكثر تعقيداً، وقد تكون أيضاً هي تراكم لمجموعة من الأزمات في اتجاهٍ واحدٍ، فإذا طبقّنا هذا على الشرق الأوسط في العقود الأخيرة فسوف نجد أن الأزمات التي مرَّ بها لا يمكن حصرها.
أمَّا المشكلات الرئيسة فهي التي سيطرت على أجواء المنطقة بدءاً من الثورة الإيرانيَّة عام 1979 مروراً بحربها مع العراق وصولاً إلى الطريق المسدود الذي بلغته القضيَّة الفلسطينيَّة في سنواتها الأخيرة، ومحاولة تصفيّة الصراع لصالح إسرائيل تحت مسميات مختلفة، لعل آخرها ما يطلقون عليه (صفقة القرن)، واضعين في الاعتبار اختفاء الزعامات التقليديَّة القويَّة في المنطقة بدءاً من الملك فيصل في السعوديَّة مروراً بالملك الحسين بن طلال في الأردن وصولاً إلى حافظ الأسد في سوريا، ثم ما أطاحت به ثورات الربيع العربي من بقيّة الزعامات بعد سقوط نظام صدام حسين، ثم رحيل القذافي، والوضع المأزوم في لبنان، والتطورات الغامضة نسبياً في السودان، ومحاولات مصر ضرب حصار التطويق الذي تحاول جماعة الإخوان المسلمين والمشاركون لها فرضه عليها لإهدار كل إنجازات مصر، وتحويلها إلى سلبيات على كل المستويات.
ثانياً: يدركُ الجميع أن منطقة الشرق الأوسط ملتهبة بالطبيعة، وهي (برميل بارود) قابل للانفجار في أي وقت، فهي أرض الديانات والحضارات، وأيضاً الثورات والثروات، لذلك اتجهت إليها الأطماع، وتركّزت عليها الضغوط، وأصبحت مطمعاً للجيران إقليمياً، وللقوى الكبرى عالمياً، وليس ذلك بأمرٍ جديدٍ!
لكن، الذي أصبح جديداً هو أن اللعب أضحى على المكشوف، وسقطت ورقة الحياء الإقليمي، وكشفت العناصر المعاديّة عن أطماعها صراحة ودون مواربة، لقد قال مسؤول إيراني كبير عندما سقطت أجزاء من صنعاء في أيدي الحوثيين: “لقد سقطت العاصمة العربيّة الرابعة في أيدينا بعد بغداد ودمشق وبيروت”.
ورغم أن ذلك ليس صحيحاً وتعوزه الدقة، إنما يكشف عن مكنون (التفكير الصفوي) تجاه العرب والعروبة، ويدعو الأطراف العربيَّة المختلفة إلى مواجهة الموقف بشجاعة ووضوح، فلم يعد هناك وقت للانقسام والتشرذم، بل لا بدّ من الاتفاق على حد أدنى من التنسيق والتضامن، بناءً على تصوّر اقتصادي جديد للإمكانات العربيَّة، وإبعاد الخلافات السياسيَّة عن الطريق الذي يجب أن يكون ممهداً بين العواصم العربيَّة.
ثالثاً: دعنا نعترف أن الإطار البُنيَويّ لبعض النظم العربيَّة لم يعد قادراً -في ظل الظروف الحاليَّة- على تحمّل مسؤوليات المرحلة، لأن ما أطلقنا عليه ثورات الربيع العربي لم يكن تعبيراً صحيحاً عن الواقع، بل هو عمليّة تغيير في مراكز القوى ومقاعد السلطة وفقاً لجاهزيَّة كل حزب سياسي أو فصيل وطني.
ولذلك، كانت النتيجة سلبيّة، فبعد أن أظهرت الشهور الأولى أروع ما لدى العرب من مخزون ثقافي وإنساني، فإذا هي تدفع بعد ذلك بأسوأ ما فيهم، لأنها عجزت عن إيجاد تنظيم سياسي قوي يحافظ على المصالح العليا للبلاد، ويكفلُ الاستقرار ويضمن القدرة على مواجهة الإرهاب بكل صوره وألوانه.
ويكفي أن نتذكّر هنا أن مصر (على سبيل المثال) تبني من خلال إصلاح اقتصادي كبير وفي ذات الوقت تحارب إرهاباً عشوائياً مجهول الهُويَّة مع حصار إعلامي لا أخلاقي وكم هائل من الإشاعات والأكاذيب، لكن ذلك هو قدر الأوطان التي يجب أن تشيّد العمران، وفي الوقت نفسه تبني الإنسان.
رابعاً: كنتُ أتحدّث مع مسؤول أجنبي كبير، فقال لي إنه عندما يتحدّث إلى المصريين عن الخطر الإيراني، فإنهم يردون عليه بالحديث عن الخطر التركي أيضاً، مستغرباً هذه الظاهرة، فقلت له: لا عجب فكل هذه الأنواع من المخاطر المحيطة بالدول العربيَّة هي ذات أهميَّة واحدة، لكن قد تختلف نسبياً لأسباب جغرافيَّة أو ظروف حاليَّة، فالمصريون قلقون من التدخل التركي في ليبيا، ومن إمكانيّة تسريب عناصر إرهابيَّة إلى ذلك البلد العربي الكبير مساحة، الذي يقع على ساحل المتوسط في شريط طويل أيضاً.
وهنا، يكون قلق مصر مشروعاً مثلما هو قلق أشقائنا في الخليج من التمدد الإيراني، الذي يسعى لأن يكتسب أرضاً ووجوداً على حساب العرب، بل ويقفز من مكانه إلى لبنان (أيقونة العرب) في محاولة لتشويهه بمنطق السيطرة وتحت مظلة طائفيَّة مقيتة، لكي يعطل حركة الدولة ويُوقف معدل التقدم الذي يمكن أن يشهده قُطر له مقومات الدولة اللبنانيَّة.
فالأهداف واحدة والمخاطر مشتركة، لكنها تختلف نسبياً من مكانٍ إلى آخر، فأنا أرى مثلاً أن موضوع سد النهضة لم ينل اهتماماً كافياً من بعض الدول العربيَّة التي كانت ولا تزال قادرة على الضغط على إثيوبيا لتمضي في طريق عادل دون جنوحٍ أو غطرسة.
خامساً: ما زلنا نلحّ وسوف نظل نفعل قائلين: إن الأرض العربيَّة لن تستعيد هُويتها الحقيقيَّة وشخصيتها الطبيعيَّة إلا من خلال وجود حد أدنى من التضامن العربي، الذي يقف سدّاً منيعاً في مواجهة المخاطر التي تحدث من حينٍ إلى آخر.
كما أنه يجب أن ندرك أن أعداء الأمة العربيَّة يتفقون -غالباً- على أهداف مشتركة مع أطماع شديدة في ثروات العرب، فإذا كنّا في الزمن العربي الرديء فإن الجانب الآخر يستثمر ما نسميه بالسياسات القُطريَّة والتصرفات الانفراديَّة، ويحاول التهام المنطقة العربيَّة قُطراً قُطراً في ظل أعاصير شديدة تحمل معها كل الاحتمالات المفتوحة التي لا تريد خيراً للجماعة العربيَّة في غرب آسيا أو شمال أفريقيا.
هذه رؤيّة قد تبدو فيها روح التشاؤم، لكنني من المؤمنين بأننا واجهنا عبر تاريخنا انتكاسات كبرى في (حرب الفرنجة) تحت شعار ظالم يرفع الصليب، بينما كان الهدف استعمارياً بحتاً، وواجهنا (التتار) بجرائمهم المعروفة في بلاد الرافدين وغيرها، وعرفنا (الهيمنة العثمانيَّة) البغيضة عدة قرون، لكن بقيت الأمة العربيَّة بملامحها الأصليَّة ثابتة وقويَّة، ولذلك فإنني أردد في نفسي الحكمة القائلة (تفاءلوا بالخير تجدوه)، بشرط أن تشتد العزيمة وتقوى الإرادة، ونصبح وكأننا الكل في واحد!
مصطفى الفقي
اندبندت العربي