يواصل الرئيس العراقي برهم صالح خطواته للابتعاد عن دائرة الحكم الخاضعة للهيمنة الإيرانية، ما يقربه من إيقاع الشارع المنتفض ضد الطبقة السياسية منذ أربعة شهور.
بغداد – تجاهل برهم صالح التهديدات التي استهدفته بشكل شخصي في حال التقى الرئيس الأميركي، لكنه التقاه بالفعل الأربعاء على هامش أعمال منتدى دافوس في سويسرا. ولم يكتف الرئيس العراقي باللقاء، بل استغل حدوثه للتأكيد على الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق، في إشارة إلى وقوفه ضد قرار القوى الشيعية في البرلمان العراقي القاضي بإخراج القوات الأميركية من بلاده.
واتفق الرئيسان على ضرورة الحفاظ على دور عسكري أميركي في العراق، وفق ما أكده البيت الأبيض في بيان.
وجاء في البيان “اتفق الرئيسان على أهمية مواصلة الشراكة الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والعراق، ومن ضمنها قتال تنظيم الدولة الإسلامية”. وأفاد البيان بأن “الرئيس ترامب أعاد التأكيد على التزام الولايات المتحدة بعراق يتمتع بالسيادة والاستقرار والازدهار”.
وعلمت “العرب” أن الرئيس الأميركي وعد نظيره العراقي، خلال لقاء دافوس، بخفض كبير في أعداد القوات الأميركية الموجودة على الأراضي العراقية، ولكن وفقا لصيغ تعدها الولايات المتحدة، وبناء على تقييمها الخاص، وليس استجابة للضغوط الإيرانية.
وقالت مصادر اطلعت على جانب من المداولات بين صالح وترامب، إن الرئيس العراقي اجتهد في شرح مخاطر التصعيد في المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران على أراضي بلاده، مؤكدة أن مساعيه قوبلت باهتمام من لدن الرئيس الأميركي، الذي أكد بدوره أن بلاده لا تسعى إلى البقاء العسكري في العراق، في حال لم ترد بغداد هذا.
وحذرت كتائب حزب الله وحركة النجباء، وهما من أكبر فصائل الحشد الشعبي، الرئيس برهم صالح من لقاء دونالد ترامب، وسط تهديدات بـ“الطرد” من بغداد.
وقال أبوعلي العسكري، من يعرف بـ“المسؤول العسكري” في كتائب حزب الله، “نشدد على ضرورة التزام برهم صالح في عدم اللقاء بالأحمق ترامب، وزمرة القتلة التي ترافقه”. وأضاف “سنقول حينها: لا أهلاً ولا سهلاً بك، وسيعمل الأحرار من أبنائنا على طرده من بغداد الكرامة والعز”.
وقالت حركة النجباء “نستغرب لمن يمثل العراق الذي قرر شعبه وبرلمانه طرد المحتل أن يجلس مع رئيس دولة هذا المحتل الذي اغتصب أرضه ويرفض الانسحاب منها استهتارا وعلوا في الأرض رغم قرارات البرلمان العراقي والحكومة العراقية”، مشيرا إلى أن “رئيس الجمهورية هو المسؤول الأول عن حماية سيادة العراق وسلامة أرضه ومقدساته ولا ندري بأي يد تصافح هذه اليد الملوثة بدم الشهداء”.
وبعد اجتماع صالح وترامب، واصل قادة الميليشيات الموالية لإيران الهجوم على الرئيس العراقي، إذ قال نصر الشمري، وهو نائب الأمين العام لحركة النجباء، “أسقطت نفسك بيدك وحكمت عليها بالذل والهوان، ولن يشرف العراقيين أن يكون منهم من يستهين بدمائهم وشهدائهم”، داعيا الرئيس إلى الاستقالة من منصبه، بعدما وصفه بـ”الانفصالي”، في إشارة إلى أصوله الكردية.
واستخدم مسؤولون في حركة عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي أوصافا من قبيل “الخيانة” و”الخنوع” لوصف الرئيس العراقي خلال لقائه نظيره الأميركي، وهو أمر شائع كلما تعلق الأمر بعلاقة طرف سياسي عراقي مع الولايات المتحدة.
وشن القيادي البارز في منظمة بدر، وزير الداخلية الأسبق، محمد الغبان، هجوما حادا على برهم صالح، بعد لقائه الرئيس الأميركي.
وخاطب الغبان مستشاري صالح الشيعة قائلا “كيف ستستقبلون برهم صالح الذي التقى مبتسما قاتل قائد الانتصارات على داعش”، في إشارة إلى مقتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس.
وبدا أن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر يتابع حراك برهم صالح بدقة، ويلاحظ أنه ينفرد بمساحة خاصة عن الطيف السياسي، ربما تقربه من الجمهور، لذلك سجل مداخلة سريعة عبر حساب أحد المقربين منه، بعد ساعات قليلة من اللقاء بين الرئيس العراقي وترامب.
ونشرت صفحة “صالح محمد العراقي” على فيسبوك، المعروفة بقربها من الصدر، صورة لصالح عقب لقائه ترامب، مع تعليق مقتضب جاء فيه “فخامة رئيس الجمهورية.. حامي السيادة وحامي الثوار”.
وسجل هذا المنشور تفاعلا هائلا من جمهور الصدر، فيما اعتبره مراقبون تحولا جديدا في مواقف زعيم التيار الصدري، الذي يدعو منذ أيام إلى تظاهرة مليونية في بغداد، ضد الوجود العسكري الأميركي في العراق.
وقال مراقبون إن موقف الصدر الداعم لبرهم صالح، سيلعب دورا حاسما في إعادة توجيه النقاش بشأن مستقبل القوات الأميركية في العراق.
وبالمجمل، سعى الإعلام العراقي الموالي لإيران إلى إخراج مشهد اللقاء بين صالح وترامب من سياق الحالة العراقية الوطنية إلى سياق الحالة القومية، ليصور الأمر على أنه لقاء بين مسؤول كردي انفصالي وعدو أميركي.
ويشكل صالح النموذج الأول للمسؤول العراقي الذي يتمرد على الرؤية الإيرانية بشأن الشكل الذي يجب أن تكون عليه العلاقة بين بغداد وواشنطن.
ويدفع صالح ومعه جميع القيادات الكردية ومعظم الأطراف السياسية السنية نحو علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، على عكس الرغبة الشيعية، التي تريد قطع العلاقات كليا وطرد القوات الأميركية من العراق، تنفيذا للرغبة الإيرانية.
وتثير التهديدات التي وجهت لصالح موجة من السخرية في أوساط نشطاء داعمين لحركة الاحتجاج الشعبية المستمرة منذ أربعة شهور، فيما يستغرب آخرون من جرأة الميليشيات على تهديد رئيس دولة بشكل علني، من دون تدخل أجهزة هذه الدولة، ما يكشف خضوع هذه الدولة كليا للسيطرة الميليشياوية.
ولم يكن اللقاء بالرئيس الأميركي هو أول ملامح تمرد برهم صالح على الرؤية الإيرانية، إذ سبق أن أجهض خطة لتسمية رئيس وزراء جديد، موال لطهران، خلفا للمستقيل عادل عبدالمهدي.
من شأن نجاح مساعي الرئيس برهم صالح في تثبيت مسار جديد يختلف عن المسار الإيراني أن يجتذب الكثير من الأنصار في صفوف المحتجين
وأحبط صالح مساعي تمرير مرشحي البناء، وهو تحالف نيابي يمثل السياسة الإيرانية في البرلمان العراقي، قصي السهيل، المقرب من نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون، وأسعد العيداني المقرب من الحرس الثوري، الأمر الذي أغضب طهران بشدة.
وتسرب أن كتائب حزب الله تلقت أوامر من الحرس الثوري الإيراني بإرسال طائرة مسيرة، تحمل شحنة متفجرة، فوق منزل الرئيس برهم صالح في بغداد، خلال مرحلة المشاورات التي أقصت السهيل والعيداني.
وقبل ذلك، أصدر رئيس الجمهورية بيانات حادة ضد القمع الذي تورطت فيه الحكومة ضد المتظاهرين العراقيين العزل، منتقدا سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بسبب العنف المفرط.
ويقول مراقبون إن صالح استخدم تأثيره الكارزمي الكبير في منح منصب رئيس الجمهورية ذي الصلاحيات الشكلية في الغالب، أهمية كبيرة في التأثير على مجريات الأمور داخل الساحة المحلية، متسلحا بعلاقات خارجية وثيقة.
ويقول ساسة سنة إن صالح ربما يجسد طموح أطراف عديدة داخل المشهد العراقي، لا تسمح لها علاقاتها المعقدة بإيران بأن تعلن عن مواقفها الحقيقية، مشيرين إلى أن من شأن نجاح مساعي الرئيس في تثبيت مسار جديد يختلف عن المسار الإيراني في إدارة الشأن العراقي، أن يجتذب الكثير من الأنصار، سواء في صفوف المحتجين أو على مستوى الطبقة السياسية، ولاسيما بشقيها السني والكردي.
العرب