منذ أصدر مجلس النواب العراقي قراره إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، يجري حوار غريب بين الحكومة العراقية وإدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. يبدي المسؤولون الأميركيون تجاهلا للقرار، ويشككون في فاعليته، وفي درجة قطعيته وإلزاميته. بينما تتبنّى حكومة رئيس الوزراء العراقي المستقيل، عادل عبدالمهدي، القرار وترسل الرسائل والخطابات إلى الإدارة الأميركية، مطالبة بتنفيذه. في العراق، تثير قضية مستقبل الوجود العسكري الأميركي انقساماً سياسياً وطائفياً. أما في الولايات المتحدة، فهي تطرح الأسئلة بشأن سياسات الرئيس ترامب في مجال الأمن القومي، والتعامل مع تهديد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومع إيران، في أعقاب قراره قتل قائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، في بغداد. يبدو الطرفان، بعد سبعة عشر عاما من احتلال العراق، وبعد أكثر من خمس سنوات من الحملة العسكرية على تنظيم داعش، على مفترق طرق، في طبيعة العلاقة بينهما ومستقبلها.
في العراق، أثارت قضية الانسحاب الأميركي بسرعة انقساماً سياسياً وطائفياً، فقد قاطع الكرد كلهم الجلسة التي جرى فيها التصويت على إبعاد القوات الأميركية، كذلك غابت الغالبية الساحقة من النواب السنة. هيمن ممثلو القوى السياسية الدينية الشيعية، ذات الأجنحة المسلحة والمتحالفة مع إيران، على الجلسة، فوفّروا النصاب لها، وأمّنوا صدور القرار الذي جاء جزءًا من الرد على مقتل سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس الذي قتل
“قاطع الكرد كلهم الجلسة التي جرى فيها التصويت على إبعاد القوات الأميركية، كذلك غابت الغالبية الساحقة من النواب السنة” معه. في الواقع، تمثلت استراتيجية إيران وحلفائها، بعد مقتل سليماني، في إعطاء الأولوية لإخراج القوات الأميركية من منطقة الشرق الأوسط.
والعراق طبعا في القلب من ذلك، فهو البلد الذي تقاسمت فيه إيران النفوذ مع أميركا، وتعايش معها منذ عام 2003، وهو تعايش صار صعبا بعد مقتل سليماني. سيطرت القوى السياسية الشيعية في هذه المرحلة على القرار السياسي للعراقيين الشيعة، على الرغم من استمرار حركة الاحتجاج الواسعة في بغداد وجنوب العراق وغالبية المحتجين من الشيعة الرافضين نهج تلك الأحزاب، ولتحالفها مع إيران. أما موقف الكرد والسنة، الشعبي والسياسي الذي يرفض الانسحاب الأميركي، فقد فتح الباب من جديد للانقسامات الطائفية القديمة نفسها، فقد تجدّدت الدعوة الكردية إلى بقاء القوات الأميركية في إقليم كردستان، وتجدّدت أيضا الدعوات إلى إقامة إقليم سني ذي حكم ذاتي. وعلى الرغم من أن الدستور العراقي يضع قضايا الدفاع بيد الحكومة الاتحادية، فإن من الواضح أن الفيدرالية على أساس طائفي عرقي تعود مرة أخرى تعبيرا عن الخلاف بشأن خيارات العراق الاستراتيجية، وتحديدا علاقته بإيران والولايات المتحدة. تجدر الإشارة هنا إلى أن كل القواعد العسكرية العراقية التي يتموضع فيها جنود أميركيون تقع في مناطق ذات غالبية سنية، أو في إقليم كردستان.
على الجانب الأميركي، يضع ترامب نقطتين ثابتتين، تلخصان سياسته في قضية الانسحاب من العراق، وهما أنه لن ينسحب الآن، لأن ذلك سيعزّز من موقف إيران وقوتها في العراق، وأنه
“موقف الكرد والسنة، الرافض للانسحاب الأميركي فتح الباب من جديد للانقسامات الطائفية القديمة نفسها”قد ينسحب في المستقبل، لكن بعد أن تدفع الحكومة العراقية ما يقول إن أميركا أنفقته على بناء قواعد عسكرية في العراق. وقد هدّد ترامب بفرض عقوبات على العراق، في حال فرضت بغداد على واشنطن الانسحاب.
يتجاهل كل من ترامب والحكومة العراقية الحقائق، ويخوضون في تسييس المواقف، ويستمر حوارهما الغريب، فترامب ومسؤولو إدارته يردّدون ادعاءهم أن العراق يحتاجهم، وأن وجودهم هناك يهدف إلى دعم عراق قوي ومستقر، وصاحب سيادة. بينما تقول الحكومة العراقية والقوى المسيطرة عليها إن القوات الأميركية هي من يخرق سيادة العراق. الحقيقة أن السيادة العراقية تتعرّض للطعنات من جميع الاتجاهات، لكن السيادة باعتبارها مبدأ لن تتحقق إلا ببناء دولةٍ تقوم على ثوابت مشتركة، يتفق عليها أبناؤها، ويدافعون عنها، وتميّزهم عن الدول الأخرى المجاورة منها وغير المجاورة. أما الولايات المتحدة فلها مصالح في العراق، تجعل اهتمامها به أكبر، لكنها هي من مهّدت ودعمت وبنت عمليته السياسية التي وصلت اليوم إلى أزمة كبرى، وهي لا تبدو راغبةً في التدخل في حل تلك الأزمة انسجاما مع مبدأ ترامب في الابتعاد عن عملية بناء الدولة ومؤسساتها في دول العالم، وهو الأمر الذي تورّطت فيه إدارة جورج بوش الابن، وكانت نتائجه معروفة.
سيستمر الضغط السياسي الشيعي العراقي من أجل فرض الانسحاب على أميركا، بينما قد تستمر إدارة ترامب في تجاهله، ما يعني أن الأمور ستسير نحو أزمة داخلية في العراق حول الموضوع، وأزمة خارجية بين الحكومة العراقية وواشنطن، بشأن قانونية الوجود العسكري
“السيادة العراقية تتعرّض للطعنات من جميع الاتجاهات”الأميركي. أما احتمال تطور الأمور نحو العقوبات، بل وحتى العنف من كل الأطراف، فيبقى قائما. ولكن الحوار خلف الكواليس بين المسؤولين العراقيين ونظرائهم الأميركيين مختلف. وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، حينما قال إن المسؤولين العراقيين يقولون أشياء مختلفة في الحوارات الثنائية عما يقولونه في تصريحاتهم المعلنة. ما يقوله المسؤولون العراقيون للأميركيين في تلك الحوارات معروف، وإن كان سرّيا، فهو يتلخص في أن على الولايات المتحدة أن لا تتخلى عن العراق، وأن تتفهم أن له علاقة جوار خاصة مع إيران، تحتمها الجغرافيا السياسية. ذلك هو المبدأ الذي سارت عليه العلاقة بين الطرفين منذ احتلال العراق. ولكن من الصعب أن يستمر في مرحلة ما بعد مقتل سليماني.
رافد جبوري
العربي الجديد