الانهيارات التي تعرّضت لها أخيرا الليرة السورية، المنهارة أصلاً، إنما هي الحصيلة الطبيعية لجملة المقدّمات التي أدّت بالاقتصاد السوري إلى الوضعية الكارثية التي هو عليها راهناً. والمأساة الكبرى تتمثل في عدم وجود بوادر أو مؤشّرات من شانها أن تعطي بعض الأمل بإمكانية تجاوز أسباب الانهيار، وتخفيف الضغط عن الناس، فالاقتصاد السوري قبل الثورة كان يعاني كثيراً نتيجة تراكمات الفساد الشمولي الذي مارسته أجهزة النظام والزمر الطفيلية المستفيدة على جميع المستويات. وكانت هذه الوضعية استمراراً لمسيرة عقود من الحكم الدكتاتوري الدموي الذي قاد البلاد بيد من حديد عبر المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية القمعية؛ حتى بات مجرّد أي نقد بناء عابر، وأي تحذير حريص غيور يهدف إلى ضرورة أخذ الحيطة من النتائج السلبية المرتقبة في الميدان الاقتصادي، من التهم الكبيرة التي يُعاقب عليها أصحابها بأشد العقوبات. وما حصل مع كل من رياض سيف وعارف دليلة في هذا المجال عام 2001، في بدايات حكم بشار الذي أتحف السوريين بوعود الإصلاحات، خير دليل في هذا المجال، فقد حوكما بالسجن سنوات طويلة، لمجرّد أنهما حذّرا من عواقب الاستمرار في ممارسات وسياسات اقتصادية خاطئة، فالقطاع الزراعي كان يتعرّض للكوارث نتيجة السياسات الجاهلة اللامسؤولة، والفساد المزمن الشمولي على جميع المستويات. كما كان القطاع الصناعي في تراجع مستمر، ولم تكن لديه القدرة على المنافسة في الأسواق الخارجية؛ بل أصبحت السوق الداخلية نفسها ميداناً لغزو السلع المستوردة، وذلك نتيجة الصفقات المشبوهة التي كانت بين أهل الحكم وشركائهم. أما قطاع النفط فقد كان بعيداً عن المساءلة والمحاسبة؛ فقد كانت الأسرة المالكة الحاكمة هي التي تشرف عليه، وهكذا، كان في أيادٍ أمينة، كما ذهب
“رياض سيف وعارف دليلة حكما عام 2001 بالسجن سنوات طويلة، لأنهما حذّرا من عواقب سياسات اقتصادية خاطئة”إلى ذلك في يوم ما جميل الأسد في مجلس الشعب.
أما نسبة العاطلين والباحثين عن العمل من الشباب الجامعي فقد كانت في تزايدٍ مستمر، وبوتائر سريعة، حتى انسدّت الآفاق أمام الجيل الشاب، الأمر الذي دفع الأوضاع الداخلية السورية نحو مزيد من الاحتقان؛ خصوصا بعد أن تبين للناس أن كل الوعود التي أطلقها بشار الأسد، وريث الجمهورية الاستبدادية، في بداية حكمه، كانت وسيلةً لكسب الوقت، ومن ثم التمكن والسيطرة المطلقة. وهذا ما حصل في واقع الحال.
وبعد مرور عقد كامل من حكم الرئيس الشاب، صاحب الوعود الإصلاحية، لم يكن هناك من مجال أمام الشباب السوري، بعد تلاشي كل الآمال، سوى الخروج إلى الشارع، والمطالبة بتنفيذ الإصلاحات الموعودة. وأُعطي الرئيس الفرصة مرّة أخرى، شرط أن يبدي الرغبة في الإصلاح، والقدرة على تطبيقه، ولكن الأخير، وبعد أن حسم أمره، وسلّم قراره بصورة كاملة إلى راعيه الإيراني، قرّر مواجهة السوريين بالقتل دون غيره. وهو الذي كان يتبجّح باستمرار بأنه قد حقق الاستقرار المستدام في البلاد. وتبين للجميع أن ذاك الاستقرار كان زائفاً لا يستند إلى أي أسس اقتصادية أو اجتماعية، بل كان استقراراً أمنياً، مفروضاً بقانون الأجهزة القمعية.
وشارك الإيرانيون بصورة مباشرة في قتل السوريين. وقد اعترف أخيرا وزير دفاع النظام نفسه بذلك في مجلس عزاء قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، إذ تفاخر بأنه قد خطط مع سليماني، وقاتل معه في معركة، أو بكلام أدق مجزرة، بابا عمرو، ضد المواطنين السوريين. أما مشاركة حزب الله في قتل السوريين، وتهجيرهم وتجويعهم، فقد أكدها، ويؤكدها، أمين عام الحزب، حسن نصرالله، مراراً وتكراراً، وأمام مرأى ومسمع الجميع.
والآن، وبعد نحو تسعة أعوام على بداية الثورة السورية، انهار الاقتصاد السوري بصورة شبه
“المافيات المحلية السلطوية والمليشياوية، إلى جانب المافيات الإقليمية والدولية، تتحكّم في البؤر الاقتصادية المتبقية التي تحقق أرباحاً سريعة”كاملة؛ وباتت المافيات المحلية السلطوية والمليشياوية، إلى جانب المافيات الإقليمية والدولية، هي التي تتحكّم في البؤر الاقتصادية المتبقية التي تحقق أرباحاً سريعة. كما أصبحت الإتاوات والرسوم المفروضة على تهريب السلع والبشر، والاتجار بالمخدّرات والممنوعات الأخرى؛ هذا بالإضافة إلى التلاعب بأسعار المنتوجات الزراعية، وفرض الإجراءات التي تلزم المنتجين بتسليم محاصيلهم بأبخس الأثمان، وإلى جانب ذلك كله، يُشار في هذا المجال إلى عمليات تقاسم إنتاج النفط بين النظام وحرّاسه ورعاته. وقد باتت جميع هذه المظاهر من المألوف اليومي في الواقع السوري.
أما الحصيلة التي تجسّد تراكمات وتفاعلات كل هذه العوامل المأتي على ذكرها، وغيرها؛ فتتمثل في السقوط الحر المدوي الذي تتعرّض له الليرة السورية في يومنا هذا. وقد تزامن ذلك كله، بطبيعة الحال، مع الإجراءات الأميركية الاقتصادية الصارمة ضد النظام الإيراني. كما أن إجراءات الحظر المنتظرة التي ستترتب على قانون سيزر (أقره الكونغرس الأميركي أخيرا)، تفيد بأن الاقتصاد السوري سيواجه مزيدا من الانهيارات، على الرغم من كل الإجراءات التجييشية، والحملات الإعلامية التي سوّقها النظام أخيرا بحجة دعم الليرة السورية.
واللافت في هذه الانهيارات أنها عامة، لا تخص مناطق السوريين المناهضين للنظام، بل تشمل جميع المناطق السورية، لا تفرّق بين المعارضين والموالين والمترددين، أو “البين بينيين”. وهي انهيارات ستستمر، وستكون أكثر وقعاً في أجواء عدم وجود مؤشّرات توحي بإمكانية الوصول إلى حل منتظر، فرأس النظام ما زال حبيس خطابه الهوائي الانتقامي المتبجح، الخاوي من أي مضمونٍ واقعي. وجنرالات القمع في انتظار “المكافآت” لقاء ما فعلوه
“الانهيارات أنها عامة، لا تخص مناطق السوريين المناهضين للنظام، بل تشمل جميع المناطق السورية”بالسوريين تسعة أعوام من تدمير وقتل وتهجير، بغرض تمكين رأس النظام من البقاء في الواجهة ولو شكلياً، لأن الكل بات يعرف أن الروس مع الإيرانيين أصبحوا هم من يقرّرون في أدق التفاصيل، فهؤلاء يطالبون، وسيطالبون، بحصصهم من التركة.
بلد محطم، وقوى مفلسة تصارعت فيما بينها بهدف الحصول على مناطق نفوذ خاصة بها، تستثمرها أوراقاً تفاوضية مع الجانب الأميركي، وسندات نقدية مع الأوروبيين والخليجيين. وقد راهن الروس كثيراً على ملف عودة اللاجئين ومشاريع إعادة الإعمار التي يسيل لها عادة لعاب المتعطشين إلى المال الحرام. ولكن في ظل انعدام إرادة فعلية لدى النظام بالاعتراف بالكوارث التي كانت بفعله، وعدم قدرته على الانفتاح على الحلول الواقعية التي من شأنها تدوير الزوايا، وتسهيل عملية اتخاذ القرارات الصعبة؛ وفي وضع إقليمي مضطرب، خصوصا في لبنان والعراق وإيران؛ وفي أجواء مناخ دولي يتّسم بتنامي النزعات القومية الانعزالية؛ إلى جانب مخاطر صعود القوى الشعبوية المتطرّفة التي تهدّد المكاسب الديمقراطية في مختلف الدول، الغربية منها والشرقية؛ في ظل ذلك كله وأجوائه، خطر ترك السوريين لمصيرهم جدّي ووارد، إن لم نقل هو قائم؛ وهذا ما يهدّد بمزيد من الانهيارات التي ستنعكس نتائجها السلبية الموجعة على الواقع المعيشي لغالبية السوريين، هؤلاء الذين يعانون أصلاً من وضعٍ مأساوي يستعصي على الوصف والتحمّل.
عبدالباسط سيدا
العربي الجديد