بإسقاطات تاريخية على الواقع الحالي، واستمراراً لنمط سائد في الأعمال الفنية الممولة من وزارة الثقافة الروسية في السنوات الأخيرة، يطرح فيلم “اتحاد الخلاص” Union of Salvation، للمخرج الروسي أندري كرافتشوك، رؤية جديدة لمفاهيم الوطنية والخيانة، ويحمل تحذيراً مُبطّناً من عدم جدوى أيّ ثورات واحتجاجات، يقودها حالمون وسُذَّج لم يجربوا مرارة الحياة في العهد السوفييتي، وفترة فوضى التسعينيات.
ولا تختلف فكرة الفيلم كثيراً عن عدد من الأفلام التاريخية الممولة حكومياً، مثل: “أدميرال” و”فايكينغ”. فالجامع بينها، إضافة إلى إعادة كتابة تاريخ روسيا من منظور يمجّد الأسرة القيصرية، التركيز على الآثار السلبية لمحاولات تغيير الأنظمة بالقوة، وتفضيل انتظار “مكرمات” الحاكم، حتى ولو تأخّرت كثيراً.
ويروي “اتحاد الخلاص” الذي كتبت قصته تحت رقابة الجمعية التاريخية العسكرية الروسية، أحداث ثورة “الديسمبريين” (الضباط الأحرار الروس)، واستعداداتهم لانتفاضة ديسمبر/ كانون الأوَّل 1825، وتاريخ الحركة السياسية الاجتماعية السري، ومحاولة الانقلاب وفشلها، وما تلا ذلك من عواقب مأساوية أخَّرت الإصلاحات في روسيا.
الفيلم كلف تصويره 800 مليون روبل، وحظي بإعجاب السياسيين والمؤرخين الروس المحسوبين على السلطة الحاكمة في البلاد، وأهمهم وزير الثقافة الروسي السابق فلاديمير ميدينسكي، الذي أشاد بدور الفيلم في “تبديد العديد من الخرافات حول روسيا”، مُتعهّدًا بإدراج الفيلم في المناهج الدراسيَّة الإلزاميَّة. وفي المقابل، أعرب عددٌ كبيرٌ من الناقدين السينمائيين عن عدم رضاهم عن الفيلم، موضّحين أنّ العمل يفتقر إلى سيناريو مفهوم وواضح، ويقفز في 130 دقيقة من حدث ومكان تاريخي إلى حدث ومكان آخرين، دون أي ترابط منطقي أو مضمون فني.
ومن الناحية التاريخية والرسالة التي يبثُّها للمشاهدين، فقد أثار الفيلم ضجَّة وصفتها الصحافة الروسية بأنها الأكبر حول عمل فني في تاريخ روسيا الحديث. ورغم أن الفيلم التزم بالحقائق التاريخية، ولم يزور شيئاً منها، إلا أنه تغاضى عن حقائق أخرى، ما طرح سياقاً جديداً للحدث التاريخي، الأمر الذي وصفته الكاتبة في صحيفة “نوفايا غازيتا”، لاريسا ماليوكوفا، بأنّه أشد خطراً من تزوير التاريخ، لافتة إلى أن “عرض نصف الحقيقة أسوأ من الأكاذيب”.
وأشارت ماليوكوفا في مقال، إلى تعمد اختيار مؤرخين وأكاديميين بعينهم للمشاركة في الإشراف على قصة السيناريو، مثل أوكسانا كيانسكايا، الباحثة في تاريخ حركة الديسمبريين، ومؤلفة كتب “انتفاضة الجنوب” و”الديسمبريون”، المختصة بدراسة تاريخ “نظام تمويل المؤامرة على نظام الحكم وضمان تنفيذها، وعلاقة الديسمبريين بالفكر الاجتماعي – السياسي الأوروبي”.
كما أشار صحافيون روس إلى تركيز الفيلم على “المشهد التعبيري الطويل لما بعد المعركة”، والتي وقعت في ميدان مجلس الشيوخ، إذْ تُعرَض بالتفصيل جثث عشرات الجنود والمواطنين المدنيين الأبرياء. وتعمد منتجو الفيلم طرح السؤال الخطابي والرئيسي في الفيلم: “لماذا فعلتم كل هذا؟”، ليخرج المشاهدون من دور السينما مع سؤال يدور في أذهانهم: “حقاً! لماذا فعلوا كل هذا؟ من أجل قيم ليبرالية أوروبية مستعارة من الغرب؟”.
من جانبه، انتقد المؤرخ الروسي المعروف نيكيتا سوكولوف، الفيلم، واصفاً إيّاه بأنه “كذبة كبيرة وجريمة ضد الوعي التاريخي للجيل الحديث”، مُوضِّحاً أن القائمين على العمل الفني تعمَّدوا تصوير الشخصيات التاريخية التي طالبت بتغييرات سياسية واجتماعية، بأنهم “شبان سطحيّون سذج”، وتجاهلوا الأوضاع المزرية والفساد في روسيا في ذلك الحين، ولم يتطرَّقوا إلى الدوافع الوطنية لدى الديسمبريين.
كما انتقد المؤرخ الروسي في لقاء مع موقع “ريالنويه فريميا”، عرض الفيلم للجنود المشاركين في الانتفاضة وكأنهم “كتلة وحشية من مثيري الشغب”، لافتاً الانتباه إلى أن منتجي الفيلم تجاهلوا عمدا حقيقة أن المنتفضين كانوا “نخبة النخبة”، وأصحاب علم وثقافة، وليسوا “مجموعة من الهمجيين ومثيري القلاقل”.
ومعلوم أن حركة “الديسمبريين” بدأت في روسيا القيصرية بعد حرب 1812 ضد القوات الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت وبعد اطّلاع نخبة من النبلاء والعسكريين على الأوضاع في أوروبا، وتفجرت الحركة في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1825 ضد الإمبراطور نيقولاي الأول، وكان أهم مطالبها إلغاء الملكية والعبودية في روسيا. ورغم أنه تم قمع الحركة، فقد خلدها شعراء، مثل ألكسندر بوشكين، والمفكرين الروس، وأكدوا أنها فتحت الطريق أمام الإصلاحات اللاحقة في روسيا، وأسست للفكر الثوري. وفي 1925، أطلقت السلطات السوفييتية اسم “ساحة ديكابريستوف” على الساحة التي أعدم فيها الضباط الثائرون في بطرسبورغ (لينينغراد سابقا).
ويجمع عدد كبير من المحللين والنقاد على أن الفيلم أراد إيصال رسالة سياسية واجتماعية، مفادها أن الاحتجاجات في روسيا لا تحمل مضموناً مفيداً للبلاد ومواطنيها، ومصيرها حتماً الفشل، وذهب إلى تصوير المحتجين والمعارضين لنظام الحكم على أنهم “سذج وحالمون، يحملون قيماً غربية غريبة، لا مكان لها في روسيا”.
ويقول ألكسندر باونوف، رئيس تحرير موقع “مركز كارنيغي – موسكو”، إن الفيلم جاء بمثابة “دعاية استبدادية أرادت إظهار الوجه الليبرالي للقيصر وإخفاء ميوله لاستخدام القوة، إذ عرض الفيلم رغبة القيصر ألكسندر الأول (1777-1825) بمنح الشعب دستوراً جديداً، إلا أنَّ الأمر لم يُنجَز بعد أعمال الشغب والانتفاضة الفاشلة، في إشارة إلى أن الديسمبريين هم الذين عطلوا التقدم وعرقلوا عجلة الإصلاحات التي أرادها القياصرة”.
سامر الياس
العربي الجديد