بغداد – كشفت مصادر سياسية عراقية عن تقديم المكلف بتشكيل الحكومة العراقية محمد توفيق علاوي تعهدات خطية تلزمه أمام القوى السياسية الموالية لإيران بالحفاظ على جميع مصالحها.
وذكرت مصادر مطلعة على كواليس مفاوضات التكليف في تصريح لـ”العرب” أن القوى الشيعية حجزت حصتها من الكابينة الوزارية الجديدة، وأفردت حصصا مُرضية للقوى السياسية الكردية والسنية لضمان تأييدها لحظة التصويت على منح الثقة لحكومة علاوي في مجلس النواب.
وبرغم تعهد علاوي بأن تكون حكومته مستقلة تماما، إلا أن الجميع يدرك أن هذه التعهدات تطلق للاستهلاك الإعلامي، لأن الأطراف التي تتحاصص مناصب الدولة لن تمرر أي حكومة ما لم تَطمئن على مصالحها.
لكن مصادر مقربة من علاوي قالت لـ”العرب” إن رئيس الوزراء العراقي المكلف سيحاول أن يلون كابينة الوزراء بأسماء محسوبة على حركة الاحتجاج، كي يستخدمها في الدفاع عن استقلالية حكومته وينفي حقيقة أنها تشكيلة محاصصة سياسية بامتياز.
وسرب أنصار رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي معظم وثائق المفاوضات الخاصة بتكليف علاوي، من بينها ورقة مكتوبة بخط اليد تتضمن شروطا وضعها زعماء تحالف الفتح برئاسة هادي العامري على رئيس الوزراء الجديد، بينها تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية الغامضة مع الصين والعمل على إخراج القوات الأميركية من العراق خلال 3 أشهر من تاريخ تشكيل الحكومة.
وكشفت هذه الوثيقة، التي مثل تسريبها حرجا بالغا لأنصار إيران، عن عمق النفوذ الإيراني في العراق، وحقيقة أن أكبر اللاعبين السياسيين فيه هم مجرد أدوات في يد الجار الشيعي، كما أنها كرست حقيقة القطيعة بين الطبقة السياسية التي تستقل في الدفاع عن مصالحها بغض النظر عن الظروف، والشارع المنتفض الذي يريد وطنا مستقلا سيد نفسه، لا يخضع لأي مؤثرات خارجية.
ويترجم اختيار علاوي إصرار الطبقة السياسية الحاكمة، على تكليف شخصية تتصل بها وتنحدر منها، ورفض جميع محاولات إقحام “أجسام غريبة” في كيانها، وذلك للاستفادة من شبكة المصالح والزبائنية التي تحكم الحياة السياسية في العراق.
ولعب رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر، دورا كبيرا في تسمية علاوي مرشحا مكلفا لتشكيل الحكومة العراقية، عندما دفع بأنصاره إلى احتلال ساحات الاحتجاج في بغداد والمحافظات لمنع أي اعتراضات شعبية في صفوف المتظاهرين. فيما طالب لاحقا بإعادة فتح المدارس والجامعات وإنهاء الإضراب المتواصل.
وبرغم أن علاوي هو أحد الموصوفين بالتمرد على هذه الطبقة السياسية، إذ سبق له أن عمل وزيرا للاتصالات في دورتين إبان حكم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بين 2006 و2014، مسجلا اختلافات عميقة معه، انتهت بقطيعة وملاحقات قضائية، إلا أن المعلومات المحيطة بتكليفه الجديد، تشير إلى أنه التزم أمام القوى السياسية الموالية لإيران بالحفاظ على جميع مصالحها، عبر تعهدات خطية، في وقت رحبت طهران عبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية باختيار علاوي رئيسا لوزراء العراق.
وبعد إعلان تكليف علاوي مساء السبت، وظهور لافتات رافضة له في ساحة التحرير وسط بغداد، اندفع أنصار الصدر المدججون بالسلاح نحو خيام عدد من المعتصمين وهددوا أصحابها بالتصفية، فيما هجم آخرون بالهراوات على المطعم التركي، وهو أحد أشهر رموز حركة الاحتجاج في العاصمة العراقية وانتزعوه بالقوة من الشبان الذين تمترسوا فيه طيلة شهور ضد هجمات قنابل الغاز والرصاص الحي التي تشنها الحكومة والميليشيات الموالية لإيران بهدف تفريقهم.
ويوم الأحد، بلغ بأنصار الصدر الحال أنهم اختطفوا نشطاء من ساحة التحرير اعترضوا على تكليف علاوي، ونقلوهم إلى أماكن بعيدة، لمنع الاعتراضات على رئيس الحكومة الجديدة.
وجاءت كل هذه الاعتراضات، بينما حاول الصدر أن يتملص من مسؤولية هذا التكليف، عندما ذكر أن الشعب العراقي هو من اختار علاوي، وهو موقف تسبب في سخرية واسعة.
وخلال الأيام التي سبقت اختيار علاوي، أجرى الصدر مباحثات مطولة مع زعيم ميليشيا بدر، هادي العامري، الذي يقود تحالف الفتح، إحدى أكبر الكتل البرلمانية، لاختيار رئيس وزراء جديد.
واتفقت جميع المصادر التي واكبت هذه الاجتماعات على أن علاوي كان يحظى بدعم ومباركة الصدر والعامري معا، وأن الخلافات بينهما كانت تدور حول حصص كل منهما في حكومته.
فيما أعلن ائتلاف النصر، برئاسة رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، أنه ليس طرفا في اختيار علاوي لمنصب رئيس الوزراء، مطالبا رئيس الوزراء المكلف بتحقيق مجموعة من المطالب وأن يعاد للدولة اعتبارها.
وسبق لتفاهم مماثل بين الصدر والعامري أن أنتج عادل عبدالمهدي رئيسا للحكومة التي نظر إليها على أنها الأضعف والأسوأ أداء خلال الأعوام الأخيرة.
وإذا كان عبدالمهدي لديه شيء من التأييد الداخلي لارتباطه سنوات عدة بالحياة السياسية متنقلا بين مناصب عدة، فإن علاوي توارى عن الأنظار منذ اتهامه من قبل رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي بسرقة أموال وزارة الاتصالات، ما طرح أسئلة عديدة بشأن الأسباب التي تدعو القوى السياسية إلى إحياء شخصية سياسية من هذا النوع.
لكن الجواب على هذا السؤال لم يكن متاحا في بغداد، وإنما في بيروت، فعلاوي هو إحدى أشد الشخصيات العراقية قربا من حزب الله، وسبق أن قدم له تسهيلات كبيرة في قطاع الاتصالات العراقي عندما كان وزيرا في حكومة المالكي، تمثلت في حصول شركات تمثله على عقود بملايين الدولارات لسنوات.
وحتى هذه اللحظة، تهيمن شركتان تابعتان لحزب الله، على ثلاثة عقود كبيرة جدا في قطاع الاتصالات العراقي، بعدما حصلتا عليها في زمن علاوي.
ويقول مطلعون على كواليس هذا الملف، إن هذه العقود تشكل العمود الفقري للموازنة المالية التي يعتمد عليها حزب الله اللبناني في دفع رواتب مقاتليه.
إلا أن علاوي نفى هذه الاتهامات، مؤكدا في تصريح مكتوب وصلت نسخة منه إلى “العرب” “إنها أكاذيب يرفعها أصحاب الشعارات الزائفة لأسباب غير مجهولة”.
وأظهر محمد كوثراني مسؤول الملف العراقي في حزب الله اللبناني حماسة كبيرة لتكليف علاوي بتشكيل الحكومة الجديدة، ورعايته المباشرة لمفاوضات الصدر والعامري.
وتمكن كوثراني من إخماد اعتراضات قوية أبداها المالكي على تكليف علاوي، استمرت حتى ساعات قليلة من اختياره.
وأنهى تكليف علاوي بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، أسابيع من الجدل بشأن ضرورة استقلالية رئيس الوزراء المقبل عن الأحزاب السياسية والتدخلات الخارجية، لكنه فتح الباب على مرحلة جديدة من التوقعات المحفوفة بالتشاؤم، نظرا للتعقيدات الكبيرة المحيطة بالمشهد السياسي في البلاد.
ومع أن تكليف علاوي سيحرك الأجواء السياسية خلال مرحلة اختيار أفراد كابينته الوزارية التي تستمر لشهر كامل، إلا أنه من غير المنتظر أن يقود إلى إنهاء حركة الاحتجاج الشعبية التي بدأت في أكتوبر من العام الماضي، واستمرت طيلة الأشهر الماضية، برغم القمع الحكومي الدامي الذي تسبب في مقتل قرابة 750 متظاهرا وجرح 22 آلفا آخرين بينهم أربعة آلاف معاق، فضلا عن تسجيل 121 حالة اختطاف واغتيال لنشطاء في بغداد والمحافظات.
ولم ينتظر الشارع العراقي كثيرا، إذ عبر عن رفضه المباشر لتكليف علاوي، مشيرا إلى أن الطبقة السياسية الحاكمة غير عابئة بالرفض الجماهيري لجميع مخرجاتها.
وإذا كان الصدر قادرا على استخدام شعبيته الجارفة في وأد الاعتراضات التي يبديها المحتجون داخل بغداد، فإن هذا ليس ممكنا في المحافظات الجنوبية، حيث لا يشكل الصدريون الثقل الأكبر، ما منح حركة الاحتجاج خيارات كثيرة في التعامل مع الإجراءات القمعية الحكومية، من بينها الاستعانة بالغطاء العشائري القوي.
وحتى الآن، رفض المتظاهرون في واسط والبصرة وميسان وذي قار وبابل وكربلاء والنجف والديوانية، فضلا عن بغداد، تكليف علاوي، لأنه جزء من الطبقة السياسية التي يتظاهرون ضدها منذ أربعة أشهر.
وبسبب مخاوف الطبقة السياسية من تحميلها مسؤولية هذا الاختيار، فقد أحجمت معظم مكوناتها عن دعم علاوي أو تبني تكليفه، باستثناء الصدر، الذي يبدو أنه يأخذ كل شيء على عاتقه، ما يحوله إلى هدف جديد لحركة الاحتجاج في حال تجددها بسبب إخفاق علاوي المتوقع.
وبرغم تجنب الأطراف السياسية تبني حكومته إلا أن علاوي لن يعاني في الحصول على ثقة البرلمان لحكومته، في حال لم يتمكن الشارع من إسقاطه خلال مدة التكليف.
ولدى الصدر بالذات تجربة حديثة في هذا المجال، إذ سبق له أن أعلن تنازل تياره عن حصته في حكومة عبدالمهدي، تاركا لرئيس الوزراء المستقيل حرية اختيار خمسة وزراء، لكن الحقيقة أن أنصار الصدر كانوا يتحكمون بالوزارات الخمس علنا.
العرب