منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وأميركا تقدم للمنطقة العربية مبادرات السلام، ملوحة بجزرة تحسين الأوضاع الاقتصادية لمن يقبل بأن يكون شريكا للسلام مع إسرائيل، بدءا بمصر، ومرورا بالسلطة الفلسطينية والأردن، وانتهاء ببعض دول الخليج، التي بدأت في التطبيع دون الإعلان عن الدخول في اتفاقيات سلام.
حصدت إسرائيل السلام، وتحسن اقتصادها بمعدلات عالية، بينما تدهور اقتصاد الدول العربية، سواء التي أبرمت اتفاقيات السلام مع إسرائيل أو التي لم تقدم على هذه الخطوة.
فالكيان الصهيوني كان ناتجه المحلي في 1979 نحو 21.5 مليار دولار، قفز في 2018 إلى 370.5 مليار دولار، وهو أعلى من ناتج مصر المحلي الذي بلغ في 2018 بحدود 250 مليار دولار فقط.
جزرة المعونة
بعد توقيع مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل “كامب ديفد” في نهاية سبعينيات القرن العشرين، تعهدت أميركا بتقديم معونة اقتصادية وفنية لمصر وإسرائيل، وحصلت مصر على قرابة أربعين مليار دولار منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، من المعونة الأميركية في مشروعات للبنية الأساسية والمعونات الغذائية.
كانت معظم أموال المعونة تعود مرة أخرى لأميركا في شكل مشتريات وأجور لخبراء أميركيين يعملون بمصر، فضلا عن المعونة العسكرية المقدمة لمصر سنويا، بحدود مليار دولار، تأتي في شكل أسلحة ومعدات عسكرية من أميركا.
كانت النتيجة أن حصلت أميركا بموجب برامج المعونة على كافة البيانات والمعلومات التي تخص مصر، في المجالات المختلفة، فضلا عن سياسة أميركا عبر المعونة بكل صورها، إذ كانت مسكنات لا تسمح لمصر لأن تكون دولة اقتصادية قوية.
ولم تتدخر إسرائيل جهدا في التجسس على مصر، على الرغم من الاتفاقيات الرسمية التي سمحت لها باختراق المجال الزراعي والصناعي لمصر، فلم تكد تمر سنوات معدودة، إلا وتعلن مصر عن القبض على جواسيس يعملون لحساب إسرائيل، سواء كانوا صهاينة أو أوروبيين أو للأسف مصريين.
وبعد مصر، دخلت السلطة الفلسطينية في مصيدة السلام مع الكيان الصهيوني، عبر مؤتمر مدريد 1991 واتفاق أوسلو 1993، وتم التعهد فيه بالحكم الذاتي للفلسطينيين تمهيدا لمفاوضات الوضع النهائي، الذي لم يأت بعد.
وكانت وعود تدفق الأموال إلى غزة والضفة الغربية لا تنقطع، ولكن الواقع شهد تقويض الحكم الذاتي، وهدم أية بنية أساسية تم إنجازها لصالح الحكم الذاتي الفلسطيني، وعاد الخناق بالحصار على الضفة وغزة، وترويض السلطة الفلسطينية عبر التحكم بالتدفقات المالية من خارج فلسطين، أو الإمساك بعوائد الجمارك والضرائب التي تُحصل من الشعب الفلسطيني.
وبعد مصر والسلطة الفلسطينية، دخلت الأردن دوامة السلام في عام 1994، ولم يكن وضعها الاقتصادي من حيث النتائج التي توصلت لها مع أميركا والكيان الصهيوني يختلف عن مصر، حيث يجني الكيان الصهيوني ثمار السلام الاقتصادية، بينما يبقى الاقتصاد الأردني يعتمد على المعونات والقروض، وبعض العوائد الريعية من تصدير الخدمات.
إنهاء المقاطعة
كان إنهاء المقاطعة العربية عمليا في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، من أكبر الثمار الإيجابية التي جناها الكيان الصهيوني، حيث تم إيقاف المقاطعة بشكل فعلي، سواء من الدول التي وقعت اتفاقيات للسلام مع الكيان الصهيوني، أو التي لم توقع، حيث سعت بقية الدول العربية إلى معاملات تجارية واقتصادية، عبر مكاتب للتمثيل التجاري مع الكيان الصهيوني، أو من وراء ستار.
وكانت التقديرات الاقتصادية، تشير إلى أن خسائر الكيان الصهيوني من المقاطعة الاقتصادية العربية وغير العربية، خلال الفترة 1956 – 2001، بنحو 95 مليار دولار، ولكن اتفاقيات السلام العربية مع الكيان الصهيوني، أوقفت تأثير المقاطعة السلبي على تل أبيب.
اعلان
واستطاع الكيان الصهيوني، أن يجني ثمارا إيجابية، بسبب تدفقات السياحة من جميع دول العالم، وكذلك تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، التي كانت بحدود 11 مليون دولار في عام 1979، وأصبحت 20.7 مليار دولار في 2018، وذلك وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
مما دفع كافة الدول غير العربية، التي كانت تتعاطف مع الحق الفلسطيني إلى إنهاء المقاطعة مع الكيان الإسرائيلي، وبدأت المعاملات التجارية والاقتصادية لإسرائيل مع كل من الهند ودول أميركا اللاتينية والعديد من الدول الأفريقية، حتى حلت إسرائيل رأس حربة تهدد مصالح مصر بشكل رئيس في مياه النيل، ومصالح بقية الدول العربية هناك.
قفزة الثراء المنتظرة
عبر تعميق العلاقات بين مصر والكيان الصهيوني، تمت عمليات إعادة ترسيم الحدود في منطقة شرق البحر المتوسط، مما مكن الكيان الصهيوني أن ينقب ويستخرج الغاز الطبيعي من شواطئ فلسطين المحتلة على البحر المتوسط.
ليتحول الكيان الصهيوني من دولة مستوردة للطاقة، إلى دولة مصدرة للغاز الطبيعي، وللأسف خلال الأيام الأولي من عام 2020، تدفق الغاز الطبيعي من فلسطين المحتلة إلى كل من مصر والأردن لصالح اقتصاد الكيان الصهيوني.
بل سيتملك الكيان الصهيوني خلال الفترة المقبلة، واحدة من الأوراق الإستراتيجية، بكونه دولة مصدرة للطاقة إلى أوروبا، وقد عمد الكيان الصهيوني، لتجريد العرب من الاستفادة من هذه الميزة، حيث تم تكوين تجمع يضم الكيان الصهيوني وقبرص واليونان، لإنشاء خط لإمداد أوروبا بالغاز الطبيعي أسفل مياه البحر المتوسط، واستبعاد مصر من هذا المشروع، بعد أن كان حلم السيسي أن تصبح مصر مركزا إقليميا للطاقة.
وحسب تقديرات الكيان الصهيوني، فمن المتوقع أن يحقق إيرادات من صادرات الغاز الطبيعي على مدار العقدين القادمين بنحو 112 مليار دولار، فضلا عن امتلاكه ورقة ضغط على كل من مصر والأردن، كونهما أصبحا مستوردين للغاز من الكيان الصهيوني.
ولعل النتائج التي يعيشها الكيان الصهيوني، وتمكنه من مفاصل منطقة الشرق الأوسط الآن، هو ما كان مخططا له منذ الإعلان عن مؤتمر مدريد للسلام في 1990، الذي أعلن فيه عن مشروع الشرق الأوسط الجديد، لتظل اقتصاديات المنطقة العربية تدور في فلك الاستهلاك وإنتاج المواد الأولية، بينما الكيان الصهيوني يتحول إلى دولة منتجة للتكنولوجيا ومصدر للسلع الإستراتيجية.
صفقة ترامب
قام الرئيس الأميركي ترامب بالإشارة إلى بعض ملامح الجانب الاقتصادي لمبادرته للسلام بالشرق الأوسط، التي أُطلق عليها “صفقة القرن”، حيث سيتم ضخ خمسين مليار دولار في المناطق الفلسطينية وإتاحة مليون فرصة عمل، للشعب الفلسطيني.
وكانت ندوة البحرين التي عقدت في يونيو/حزيران 2019، بمثابة تمهيد لإعلان صفقة ترامب، حيث أعلن فيها أن مبلغ خمسين مليار دولار، سوف يتم تدبيره من خلال إنشاء صندوق لجمع التبرعات، وأن الاستثمارات لن تكون قاصرة على الأراضي الفلسطينية فقط، بل ستشمل دول الجوار، مثل مصر والأردن ولبنان.
كما أعلن بندوة البحرين، أن هذه الاستثمارات سوف تتحقق على مدار عشر سنوات، أي بمتوسط خمس مليارات دولار في العام، وبالتوزيع على نحو أربع دول (الأراضي الفلسطينية، ومصر، والأردن، ولبنان) ليصبح الثمن هزيلا، مقابل أن يجني الكيان الصهيوني عوائد تصدير الغاز الطبيعي، الذي سيحول اقتصاده إلى مرحلة الثراء.
لم نتعلم من التجارب
منذ بدأت المنطقة العربية في الدخول بمبادرات السلام مع الكيان الصهيوني، والتفريط في مصالحها الاقتصادية لا يحتاج إلى دليل، فضلا عن سوء إدارتها لأوضاعها الداخلية على صعيد الاقتصاد والتنمية، كما أن الكيان الصهيوني، يُعظّم من مصالحه الاقتصادية والسياسية الإستراتيجية في المنطقة وفي المناطق المحتملة للتمدد العربي كما هو في أفريقيا.
حيث تحولت أفريقيا إلى مناطق نفوذ للكيان الصهيوني، وافتقدت الدول العربية لما يمكن أن تقدمه، لدول أفريقيا من استثمارات، أو تبادل تجاري يحقق حالة من التوازن في المعاملات التجارية مع بقية مناطق العالم، إضافة لافتقاد المنطقة العربية للتكنولوجيا وإنتاج وسائل التنقل والآلات وغيرها، التي تحتاجها دول أفريقيا في حلمها لتحقيق تنمية مستدامة.
لم يتعلم المسؤولون العرب، من الثمار المُرة التي تحققت في الفترة الماضية من خلال إقامة علاقات السلام مع الكيان الصهيوني، كما لم يتعلموا من أن فُرقتهم وغياب مشروعهم للتعاون والتكامل الاقتصادي العربي، أضعفَا موقفهم التفاوضي، وإذا ما ساروا على النهج نفسه في خطة ترامب الجديدة، فمعنى ذلك ضياع مزيد من الحقوق والثروات.
المصدر : الجزيرة