قلنا في مقال سابق، إن ثمة ثورة مضادة، يتم الإعداد لها، من أجل قمع حركة الاحتجاج التي بدأت في الاول من تشرين الاول/ اكتوبر 2019، وأن استراتيجيات هذه الثورة المضادة تمثلت في محاولات منهجية، ومنظمة، قامت بها السلطة، والمستفيدون منها، لشيطنة المحتجين، والتعكز على أي صورة او فيديو أو شعار أو إشاعة أو ممارسة فردية، من أجل ترسيخ هذه الشيطنة، فضلا عن محاولة تصنيف المحتجين إلى «سلميين»، و«مخربين مندسين»، بغية شرعنة عمليات الإعدام الميدانية التي تقوم بها القوات الأمنية، ومن معها من قوات «مجهولة» تعمل بمعيتها أو تحت حمايتها، ولا تخلو هذه الممارسات، بطبيعة الحال، من التبريرات التي تطلقها مؤسسات الدولة الرسمية حين تصف القتلة بعبارات «الطرف الثالث»، أو «الخارجون على القانون» في محاولة للتهرب من مسؤولية الجرائم التي ترتكب. وقلنا أيضا إن من بين الاستراتيجيات أيضا، هي إنتاج حركة احتجاج مضادة، تعتمد على مقولة «مصالح الناس المعطلة بفعل الاحتجاجات»، بسبب استمرار التظاهرات وانتشارها، مع عدم وجود أي أفق لنهايتها، والغرض من ذلك في الواقع هو خلق صدام حقيقي، أو خلق صدام مفتعل بين الطرفين، يبرر للسلطات «الرسمية» القيام «بواجبها» لفض النزاع بينهما كحجة لفض الاعتصامات بالقوة!
وواضح مما جرى خلال الأسبوع الأخير، أن هذه الاستراتيجية تطبق اليوم على الأرض، مع متغيرات فرضها الانقلاب الذي قام به السيد مقتدى الصدر. فبعد الوصول إلى صفقة المرشح الجديد لرئاسة مجلس الوزراء، والتي أعادت السيناريو نفسه الذي أنتج حكومة السيد عادل عبد المهدي في 2018؛ حيث اتفق تحالفا سائرون والفتح مرة أخرى على المرشح الجديد الذي كلفه رئيس الجمهورية رسميا لتشكيل الحكومة، وبدا واضحا أن رئيس الجمهورية أيضا لم يكن معترضا على المرشحين السابقين تضامنا مع المتظاهرين، كما تم الترويج لذلك على نطاق واسع، بل كان بانتظار الوصول إلى لحظة التوافق بين هذين التحالفين على المرشح! قام السيد مقتدى الصدر بسحب مريديه من ساحات الاحتجاج/ الاعتصام، اعتقادا منه أن هذا الانسحاب كاف لإجهاض حركة الاحتجاج، خاصة مع الهجوم المنظم الذي قامت بها القوات الأمنية بالتزامن مع هذا الانسحاب، ضد ساحة الخلاني في بغداد تحديدا، ولكن صمود المحتجين، والزخم الذي حصلوا عليه من المشاركة الواسعة لطلبة الجامعات، وغيرهم، والذين توافدوا بقوة إلى ساحة التحرير في بغداد، والساحات الأخرى، فرض تغيير الخطة، والعودة إلى السيناريو الذي أشرنا إليه سابقا، أي عودة أتباع التيار الصدري، والسيطرة على الساحات بالقوة، ومحاولة تسويق خرافة أن المرشح الجديد هو مرشح هذه الساحات! بدا الأمر بالهجوم على ساحة التحرير في بغداد، والسيطرة على المطعم التركي الذي أصبح رمزا أساسيا لحركة الاحتجاج، والإعلان منه أن المرشح الجديد هو مرشح حركة الاحتجاج وليس مرشحا للسيد مقتدى الصدر! بالتوازي مع ذلك وجه الأخير أتباعه ومريديه إلى فرض عودة الدراسة، وفتح الطرق والجسور بالقوة، في ظل «حياد» القوى العسكرية والأمنية، التي كانت تتفرج على أعمال البلطجة هذه دون أن تحرك ساكنا!
صمود المحتجين، والزخم الذي حصلوا عليه من المشاركة الواسعة لطلبة الجامعات، وغيرهم، والذين توافدوا بقوة إلى ساحة التحرير في بغداد، والساحات الأخرى، فرض تغيير الخطة
طوال سنوات ما بعد 2003، شكلت الميليشيات والفصائل المسلحة، دولة موازية تقوم بأداء الأدوار التي كانت تعجز القوات الرسمية، العسكرية والأمنية عن القيام بها! من ذلك عمليات التصفية الطائفية التي أعقبت حادثة تفجير مرقد الإمامين العسكريين في شباط/ فبراير 2006. والتي تم فيها «استخدام» جيش المهدي للقيام بأعمال انتقامية، في ظل تواطؤ صريح من القوات العسكرية والأمنية مع هذه العمليات (ما زال هذا التواطؤ قائما بدليل وجود أبو درع (اسماعيل حافظ اللامي)، أحد أبرز مجرمي هذه العمليات في بغداد أمام أعين الدولة ومؤسساتها جميعا!)، في سياق رغبة سياسية «شيعية» واضحة كي يتولى «جيش المهدي» الحرب لفرض نتائج محددة على الأرض، وكان ذلك في إطار الصراع الطائفي في بغداد تحديدًا ليشكّل «توازن رعب» شيعي في مواجهة حركة «القاعدة» السنية من جهة أخرى.
لقد فشلت المؤسسة العسكرية والأمنية في دمج هذه التنظيمات ضمنها مع أن رئيس سلطة الائتلاف بريمر أصدر أمرا خاصا في هذا السياق (أمر رقم 91 لسنة 2004)، إلا أن هذه المؤسسة فشلت عمليا في إدماج هؤلاء بشكل مهني فيها، واستمروا في نشاطهم بوصفهم أفردا ينتمون رسميا إلى هذه المؤسسة، لكنهم كميليشيات يرتبطون عقائديا وإيديولوجيا بالمرجعيات التي كانوا يتبعونها! وقد ظهرت هذه الصفة الميليشياوية في أعقاب مواجهات كربلاء في العام 2007، وفيما سمي بصولة الفرسان في العام 2008، في سياق صراع المالكي والصدريين، عندما تم فصل الآلاف من المنتسبين إلى المؤسسة العسكرية والأمنية بسبب انتمائهم إلى جيش المهدي.
لاحقا، وفي سياق الصراع الشيعي ـ الشيعي، تحديدا بعد مشاركة السيد مقتدى الصدر في تحالف سحب الثقة عن رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي، منتصف العام 2012، عمد المالكي إلى إعادة إنتاج «ميليشيات»، ودعم منشقين عن جيش المهدي لتشكيل ميليشياتهم الخاصة، في محاولة لمواجهة جيش المهدي (الذي تغير اسمه منذ العام 2008 إلى «اليوم الموعود»، ثم إلى «سرايا السلام» عام 2014)، وقد استخدمت لاحقا في سياق دعم النظام السوري، والقيام بعمليات عسكرية في محيط بغداد، من دون أن يكون لها أي إطار قانوني.
بعد ذلك، واستثمارا للوقائع التي أعقبت سقوط الموصل في حزيران/ مايو 2014، وجدت هذه الميليشيات فرصة للتواجد العلني، من خلال «استخدام» فتوى الجهاد الكفائي للمرجع الأعلى السيد علي السيستاني لإضفاء الشرعية و «القداسة» على هذا الوجود، على نقيض ما دعت اليه هذه الفتوى حين أكد فيها السيد السيستاني (إلى التطوع في المؤسسة الامنية حصرا!).
فقد شكلت هذه الميليشيات دولة موازية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، خاصة مع الدعم المالي المفرط الذي حظيت به من الموازنة العامة. وقد ذكرنا في كل مناسبة أن هذه الدولة الموازية ستكون محكومة بعاملين اثنين: السياق الموضوعي الذي تفرضه الوقائع السياسية، وتطورها الذاتي. وهذان العاملان فرضا واقعًا مركبًا بعد الانتخابات الأخيرة: ميليشيات تمثل الدولة الموازية تهيمن على القرار السياسي في (البرلمان/ الحكومة) المؤسسات التي يفترض انها تمثل الدولة الأصلية والتي أريد لها أن تشكل غطاء للدولة الموازية!
بعد الحركة الاحتجاجية، ومع تصاعدها وصولا إلى انقلاب مقتدى الصدر الأخير، يبدو واضحا أنه لم يعد من ضرورة لهذا الشكل، وأن الدولة الموازية قد صادرت الدولة الأصلية بشكل كامل، وأصبحت هي التي تحدد طبيعتها، ووظائفها، ومتى يجب أن تظهر، ومتى يجب أن تتوارى، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج، سواء فيما يتعلق بالصراع الأمريكي الإيراني، أو في سياق الصراع القومي والمذهبي الذي يحكم العراق، أو فيما يتعلق بمستقل وجود الدولة نفسها.
يحيى الكبيسي
القدس العربي