«قاتلتُ ضدّ ميليشيات مقتدى الصدر الشيعية. وانهمرت عليّ صواريخ جيش المهدي وفقدت أصدقاء لي جراء العبوات الناسفة التي كانت تزرعها لواء اليوم الموعود. لكن مقتدى الصدر في سنة 2018، زعيم تحالف سائرون الذي فاز بمعظم المقاعد في انتخابات البرلمان العراقي الحالي، ليس مقتدى الصدر سنة 2004. والرجل الذي وجّه ميليشيات المهدي لمحاربة قوات الولايات المتحدة في النجف ذات يوم، تغيّر نحو الأفضل». هكذا كتب في «فورين بوليسي» العقيد في الجيش الأمريكي مايكل د. سوليفان، في حزيران (يونيو) 2018؛ من موقع رأي شخصي، وليس بصفته أحد ضباط مكتب التعاون الأمني لدى السفارة الأمريكية في العراق. وبينما عمل الصدر ضدّ المصالح الأمريكية في الماضي فإنه بعدئذ، يتابع سوليفان، صار «أكثر انحيازاً إلى المساعي الغربية للحدّ من النفوذ الإيراني والتطرّف السنّي».
ليس من المؤكد، بالطبع، أنّ سوليفان يحمل اليوم الآراء ذاتها عن الزعيم الشيعي؛ لا لأنّ مواقف الصدر تبدلت وتغيرت مراراً وتكراراً حول الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وبصدد الاحتلال وغزو البلد عموماً، فحسب؛ وليس، فقط، لأنّ الحرب ضدّ «داعش» خلطت الكثير من الأوراق والمواقف، السياسية والمذهبية والميليشياتية؛ بل كذلك، وجوهرياً، لأنّ علاقة الصدر بإيران، ثمّ مرجعية الولي الفقيه الإيرانية بالقياس إلى مرجعية آية الله السيستاني العراقية، شهدت بدورها سلسلة تبدلات وتحولات. والغبطة الأمريكية إزاء بعض تلك التحولات، في سنوات 2001 إلى 2018، بالمقارنة مع «خيار العنف»، في سنوات 2003 إلى 2008؛ تبدو اليوم أقرب إلى تمثيل ذلك الهاجس القديم الابتدائي الذي جسّده بول بريمر، حاكم العراق بعد اجتياح 2003، حين اعتبر أنّ كابوس حياته سوف يكون مواجهة بين الشيعة وقوّات الاحتلال الأمريكية.
وفي نقلة إلى راهن العراق، على ضوء سحب الصدر أنصاره من معظم ساحات الانتفاضة الشعبية العراقية، وانقلاب رجاله أصحاب القبعات الزرق على المتظاهرين، وإجبارهم على تفريق الاعتصامات بالعصيّ أو بالرصاص الحيّ؛ هنا ما يقوله بيان اللجنة التنسيقية لشباب الانتفاضة حول تحولات الصدر: «لم نخرج بفتوى دينيّة ولم نخرج بتغريدة صدريّة، فلا يُراهن مقتدى وأنصاره على نفاد صبرنا ونهاية ثورتنا. ركبَ موجتنا فركبناه وحاول استِغلالنا فتجاوزناه». وأيضاً، في صدد مستقبل العلاقة: «باقون في الساحات حتى تحقيق أهداف الثورة، ولن نخذل دماء الشهداء، ولن يكونوا ورقة على طاولة المتاجرة السياسية كما فعل الصدر»؛ وصولاً إلى ذروة عالية في القطيعة، تنطوي على اتهام الزعيم الشيعي بـ«خيانة الثوار» ووصمه بـ«الخزي والعار».
وبين الأمريكي سوليفان، وتنسيقية الانتفاضة العراقية، لم يمضِ زمن طويل على وقوع الصدر تحت مطرقة تأثيم ساحقة ماحقة، لكنها إيرانية هذه المرّة، عبر صحيفة «كيهان»، المتشددة والمقرّبة من المرشد الأعلى علي خامنئي؛ التي جزمت بأنّ الصدر «باع نفسه لآل سعود». وعبر وكالة «تسنيم» الإيرانية، شبه الرسمية، تساءل حسن رستمي: «ما الذي حدث فجأة حتى باتت السعودية، التي كانت تتهم إيران بالطائفية وتتهم التيارات السياسية المتماشية مع إيران بسبب التقارب الفكري بالارتزاق والارتباط مع طهران؛ المربية الأكثر حناناً من الأمّ بالنسبة للعراقيين؟ من السذاجة أن يُنظر إلى الإجراءات السعودية ضدّ العراق، وتغيير توجّه الرياض حيال التيارات السياسية الشيعية، على أنها جزء من النية الحسنة من جانب السعودية».
انكشاف طوية الصدر باتت تتجاوز سوأة التقلّب من نقيض إلى نقيض، وصارت كاشفاً جليّ الدلالات حول تحوّل التيار الديني المذهبي إلى تيار سياسي انتهازي، يحتفظ في الآن ذاته بالكثير من جوهر الميليشيا
وليس لدائرة تناقضات الصدر أن تكتمل من دون تقريظ ذي طابع خاصّ ونادر، لأنه صدر عن وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، ثامر السبهان، الذي غرّد التالي على تويتر، في مناسبة زيارة الصدر إلى المملكة: «أؤمن بأننا يجب أن نفرّق بين المذهب الشيعي الأصيل، ومذهب الخميني المتطرف الجديد». صحيح أنّ التغريدة حُذفت بعد هنيهة، ليس لأنّ السبهان راجع موقفه من التفريق بين مذهبين في التشيّع، بل ــ كما تردد، وكما يشير المنطق ــ لأنّ بطانة الصدر اعترضت على نصّ لا يحرج الضيف أمام جماهير الشيعة، أينما كانوا، فحسب؛ بل لأنه لا يرضيه ولا يلائمه، أيضاً، إذا لم يتسبب له في أذى مباشر بالغ.
فإذا بدأ المرء من مواقف الاستبشار الأمريكية بما كان يتحوّل ويتبدل ويتقلب في خيارات الصدر، فإنّ السوابق تفسّر الكثير من التأويلات اللاحقة؛ التي لم تكن تقتصر على أمريكا، البلد الغازي وحده، بل كانت تشمل الغرب عموماً، على مستوى صنّاع القرارات من الساسة، وصنّاع الستراتيجيات، ومنظّري الشؤون والشجون الجيو ــ سياسية على امتداد الشرق الأوسط عموماً، وعوالم الإسلام والثانية السنّية/ الشيعية خصوصاً. وكيف تُنسى غبطة الغرب إزاء فوز محمد خاتمي في انتخابات الرئاسة، وتصنيفه كانتصار لخطّ «الاعتدال»؛ أو قراءة اندحار حزب الزعيم التركي نجم الدين أربكان، كانتصار آخر للعلمانية على الأصولية؟
ألم يكن الاغتباط ذاك قد تناسى الحقيقة التي تشير إلى أنّ خاتمي سليل السادة، وعماد مبدأ ولاية الفقيه، وجزء لا يتجزأ من آلة النظام؟ وأنّ أبطال العلمانية التركية هم الجنرالات، الذين لا يتقنون شيئاً آخر يعادل اتقانهم لفنون الانقلاب العسكري على المؤسسات الديمقراطية؟ ألم يتضح، سريعاً في الواقع، أنّ خلاصة كهذه ليست أكثر من مفارقة مضحكة للمؤمنين بها من ساسة وخبراء في «أصول الأصولية»، وجهابذة في علوم «الغرب» عن سوسيولوجيا «الشرق»؛ وكانت، في المقابل، مفارقة مبكية للشعوب التي واصلت سداد الثمن اليومي، بالدماء والجثث والخراب، مثلما بالكرامة والفقر والتشرد؟
وإذْ يبادر أنصار الصدر، أصحاب «القبعات الزرق»، إلى استخدام القنابل اليدوية، بعد الرصاص الحيّ، لتفريق احتجاجات ساحة الصدرين في النجف، والتسبب في استشهاد ثمانية متظاهرين وجرح العشرات؛ فإنّ انكشاف طوية الزعيم الشيعي باتت تتجاوز سوأة التقلّب من نقيض إلى نقيض، وصارت كاشفاً جليّ الدلالات حول تحوّل التيار الديني المذهبي إلى تيار سياسي انتهازي، يحتفظ في الآن ذاته بالكثير من جوهر الميليشيا، ويحترف عروض توظيف السلاح وبيع خدماته. وليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد وقوع التيار الصدري في ضائقة مالية بسبب تقليص «المال الطاهر» الإيراني، واضطراره إلى تخفيض رواتب أتباعه العاملين إلى النصف، ثمّ لجوئه بعدئذ إلى إرسال «لواء اليوم الموعود» للقتال في سوريا إلى جانب نظام بشار الأسد لقاء استئناف ضخّ الأموال الإيرانية. ويومها انتشرت أشرطة فيديو تُظهر مجموعة شبّان عراقيين من أنصار الصدر، باللباس العسكري المموّه، يحملون رشاشات ومسدسات، ويهزجون بحميّة دينية طافحة، مطالبين بأخذهم إلى الشام!
وليس جديداً، في المقابل، التذكير بأنّ تحوّلات التيار الصدري، بل مآلات ما يجري في العراق إجمالاً بعد مرور 17 سنة على «التحرير»، هو بعض تجليات المعادلة الجدلية العسيرة وراء غزو عسكري سهل؛ مارسته قوّة عظمى، نصّبت أنصارها وأزلامها في سدّة الحكم، دون التبصّر في معضلات السلام الأهلي الذي يعقب الغزو. وذات يوم هتف بعض شيعة العراق بحياة مقتدى الصدر وعلي السيستاني وأبو مهدي المهندس، بدل أحمد الجلبي أو إياد علاوي أو موفق الربيعي؛ ثم انخرط بعضهم في ميليشيات مذهبية، قبل أن تتوجه شرائح منهم إلى ساحات الاعتصام طلباً للحرية والاستقلال والدولة غير التابعة.
ولا ينقلب بعض السحر اليوم على بعض السحرة في قيادات الشيعة، والصدر على رأسهم، إلا لأنّ التاريخ لا يتحرّك بفعل المفارقة وحدها، أو على مبدأ ألف قلبة ولا غلبة!
صبحي حديدي
القدس العربي