«وباء كورونا» فصل جديد من تجارة الخوف

«وباء كورونا» فصل جديد من تجارة الخوف

«وبعد حين ستنطفأ نار انفلونزا الخنازير كما انطفأت نار جنون البقر، والحمى القلاعية، والجمرة الخبيثة، والسارز وانفلونزا الطيور، ومن جديد ستبحث الاحتكارات عن مادة جديدة لإضرام نار الخوف القيامي ثانية وثالثة ورابعة، لأننا في عصر أزمة النظام العالمي المفتوحة على اللانهاية….تبقى تجارة وحيدة رابحة هي تجارة الخوف «هذا ما كتبته يوم وباء انفلونزا الخـنازير المزعـوم عـام 2009 م. نسيت يومـها أن أضـيف أن تجـارة الخـوف من الأوبئة هي وجـه العـملة الآخـر للتـخويف بالإرهـاب.

منظمة الصحة العالمية

بفواصل دورية كل عدة سنوات باتت تظهر ما يسمى «أوبئة «: جنون البقر – السارس – انفلونزا الطيور – انفلونزا الخنازير -…… والآن كورونا «وفي كل مرة تُشيع السلطات الصحية في العالم، وقمة هرمها منظمة الصحة العالمية، بالتوافق مع القائمين على وسائل الإعلام العالمية جواً قيامياً يوحي أن نهاية العالم باتت وشيكة بسبب ذلك الفيروس.
تستنفر الدول، سياسياً وصحياً، وتُستنزف اقتصادياً. وتتسلط منظمة الصحة العالمية على رقابها، فجملة واحدة تصدر عن المنظمة تقول بوجود إصابات في دولة من الدول كافية لتدمير اقتصادها وجعلها معزلا صحيا كبيرا.
و في كل مرة ينسى الناس الكذبة التي كانوا ضحيتها ويكتشفون متأخرين كم كانوا سذجاُ عندما صدقوا ما سمعوا لكن بعد أن يتم دفع ثمن كبير، ففي الوباء المزعوم لانفلونزا الطيور انهارت صناعة الدواجن في كثير من دول العالم، وأحجم الناس عن استهلاك لحم الدواجن لشهور، وأُبيدت سلالات نادرة من الدجاج المنزلي والطيور الأخرى. وكان وجود عصفور نافق في الشارع يثير هلع مدينة كاملة كالتهديد بقصفها بقنبلة نووية.

أرباح شركات الدواء

و في انفلونزا الخنازير تم قتل أعداد هائلة من الخنازير وهي مصدر بروتيني هام في عدد من دول العالم. بالإضافة إلى أرباح شركات الدواء التي سارعت لطرح دواء التامفلو المشتق من اليانسون، ولقاحات باعت منها ما قيمته مليارات الدولارات. ثم فجأة يتبخر الوباء كغيمة صيف فتعود السماء صافية. وينسى الناس الكذب الممنهج الذي كانوا ضحية له ليقعوا بعد حين في نفس الفخ في تكرار لا نهائي لقصة الراعي الكذاب دون أن يظهر ذئب حقيقي، ونتمنى أن لا يظهر، ودون أن يكف الناس عن التصديق فيهبون للنجدة في كل مرة.
في كل وباء من هذه الأوبئة يوجد مثال ثابت هو التخويف من الانفلونزا الإسبانية. فقد دأبت منظمة الصحة العالمية وموظفوها وممثلوها المقيمون في البلدان المختلفة على التحذير من وباء يشبه الانفلونزا الاسبانية. التي اجتاحت العالم في نهاية الحرب العالمية الأولى بين عامي 1918 – 1920م، متحدثين عن رقم عشرين مليوناً من الضحايا خلفته هذه الانفلونزا، لكن هذا الرقم ما لبث أن ارتفع إلى ثلاثين مليوناً ثم ارتفع أثناء ما سمي «وباء انفلونزا الخنازير «فصار الحديث عن خمسين مليوناً وكأن الأموات يتناسلون. يومها نشر أحد مسؤولي منظمة الصحة العالمية العرب مقالاً في جريدة عربية شهيرة متحدثاً عن خمسين مليوناً من الضحايا محذراً من عدد ضحايا مشابه بسبب انفلونزا الخنازير.
في ذلك الوقت استقصيت مصدر الرقم (50 مليوناً) الذي اعتمده الكاتب فوصلت إلى دراسة أجرتها مدرسة الصحة العامة في جامعة هارفارد ونشرتها مجلة لانست الطبية الشهيرة عام 2002 م. في تلك الدراسة يرتفع عدد الضحايا إلى خمسين مليوناً. لكن الاستشهاد بهذه الدراسة ناقص على طريقة «ولا تقربوا الصلاة…» لأن ما تخلص إليه هذه الدراسة مختلف عما يخلص إليه مثيرو الرعب من تجار الأزمات. فماذا تقول تلك الدراسة ؟

دراسة سجلات الوفيات

اتبعت تلك الدراسة أسلوباً علمياً معقولاً يعتمد على دراسة سجلات الوفيات بين عامي انتشار الوباء 1918 و1920 في منطقة محددة وقارنته بسجلات الوفيات خلال ثلاثة أعوام سابقة وأخرى لاحقة. والفارق بين أرقام الوفيات بين السنوات السابقة واللاحقة وبين سنوات الانفلونز الإسبانية اعتبرته الدراسة كوفيات بسبب الانفلونزا وبناءً على ذلك رُفعت تقديرات الوفيات بسبب المرض الإسباني إلى ما يتراوح بين 50 – 100 مليون. لكن الدراسة تتابع تحليل أسباب الوفيات.
وجدت هذه الدراسة أن نسبة الوفيات في الهند أكثر بأربعين ضعفاً عنه في الدانمارك، حيث كانت 7.8 % في ولاية بيهار والمقاطعات الوسطى من الهند مقابل 0.25 % في الدانمارك. ولتفسير هذا الفارق الاحصائي الهام جداً في نسب الوفيات قام الفريق الطبي بدراسات عديدة وفي النهاية فسر الأمر بالفقر السائد في الهند، فالدراسة تقول: «لكل 10 في المئة زيادة في الدخل، كان هنالك انخفاض بنسبة 10في المئة في معدل الوفيات «وبالتالي فالقاتل هو الفقر الذي يؤدي إلى سوء التغذية التي تؤدي بدورها إلى نقص المناعة«.
أما الانفلونزا الإسبانية فكانت أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير. إن لم يمت الفقير، سيئ التغذية المحروم من التدفئة والتغذية والسكن الملائم، بالانفلونزا مات بالسل أو التيفوئيد أو غيره من الجراثيم والفيروسات.
وعادت المجلة نفسها في عام 2018 للتأكيد على المضمون نفسه من خلال مقال منشور في شهر 6 – 2018 حيث يؤكد ريتشارد هورتون أن السبب الأساسي للوفيات في ذلك الوقت هو الفقر وضعف النظم الصحية وسوء التغذية ويتوقع أن 96 في المئة من وفيات أي وباء مماثل في العصر الحديث ستكون في الدول النامية.
الفقر هو المسبب الرئيسي لوفيات الانفلونزا الإسبانية هذا ما خرجت به الدراسة الطبية الرصينة التي يحب ممثلو منظمة الصحة العالمية وأتباعهم الاستشهاد بأرقامها، لكنهم لا يكملون لو فعلوا لخرجوا بنداء لمحاربة الفقر وسوء التغذية والمجاعة الأوبئة وهي الأوبئة التي تجتاح العالم بفضل سياسات الرأسمال العالمي التي قسمت البشرية إلى مليار ذهبي غني يملك كل شيء ومليارات من البشر لا يملكون قوت يومهم.
إضافة إلى الفقر يجب أن نضيف أن وفيات هذه الانفلونزا حدثت قبل عصر المضادات الحيوية، مع أن المعروف أن المسبب الأكبر للوفيات بأي انفلونزا هو الإنتان الرئوي الجرثومي الذي يتلو الإصابة بها. وبالتالي فإن المضادات الحيوية تنقص الوفيات بشكل حاسم.
أخيراً حدثت الانفلونزا الإسبانية نهاية الحرب العالمية الأولى حيث المجاعة وسوء التغذية وهي أمور تحدثنا عنها، والهجرات والتهجير والتبادل السكاني الواسع، فقد انتقلت مجاميع بشرية تقدر بعشرات الملايين وبظروف قسرية ومشياً على الأقدام لمئات بل وآلاف الكيلومترات في ظروف غياب الأمن وانعدامه فصارت فريسة سهلة للأمراض. كما أن ملايين من الشباب كانوا محتشدين إما في معسكرات اعتقال أو في معسكرات حربية وهذا الأمر سهل انتشار الوباء الإسباني. كل تلك الأمور يمسك تجار الخوف عن ذكرها ويكتفون بالحديث عن عشرين أو ثلاثين أو خمسين مليوناً فتكت بهم الانفلونزا الإسبانية مبدين خشيتهم من تكرار هذا الأمر مع انفلونزا الطيور أو الخنازير واليوم مع كورونا.
كما كتبت يوم انفلونزا الخنازير سأكرر مع بعض التحوير «خلال الأيام المقبلة ستسري نار «كورونا «كما النار في الهشيم. وبعد حين سيصاب الجميع بالخيبة فالوباء لم يحصل كما أن البرابرة لم يصلوا إلى روما. لكن المتاجرين بالإرهاب والأوبئة سيكونون قد حققوا أهدافهم السياسية الغامضة ونهبوا المليارات من بيع الأدوية واللقاحات».

ثائر دوري

القدس العربي