بحلول الـ 11 من فبراير (شباط) المُقبل، تكون 41 عاماً مرّت على الثورة الإيرانية، أهم الأحداث المِفصلية التي شهدتها المنطقة، وأوجدت هذه الثورة تأثيراتها في المنطقة وعلاقتها بالعالم.
وكأي دولة، تُحدث بها الثورة تغييرات هيكلية اقتصادية واجتماعية وسياسية، لم تنحصر آثارها داخل حدود الدولة فقط، بل تعدّت تلك الحدود، فقد أدّى سقوط نظام الشاه إلى تأسيس نظام إسلامي، ومن ثمّ تغيّرت خريطة التحالفات بالمنطقة، فتبدّلت الصداقات والعداءات وفقاً لتوجهات النظام الإيراني، وتحوّلت إيران من حليفٍ للولايات المتحدة إلى عدوٍ، وتحوّل العراق من حليفٍ للاتحاد السوفياتي إلى الاقتراب من الولايات المتحدة، وشهدت المنطقة حرب الثماني سنوات التي قسّمت النظام العربي ذاته، وأحدثت به شقاقات، فضلاً عن معاداة إيران معظم الأنظمة العربية بالمنطقة.
البعضُ الآخر من التأثيرات كان نتاجاً للسعي الإيراني للتأثير، وخلق نظام إقليمي تنتشر به الأيديولوجية الإيرانية، ونمط الأفكار والقيم والثقافة الجديدة إلى المحيط الخارجي. عملت إيران على ترجمة أفكارها الثورية ومأسستها بالنصّ عليها في الدستور، ونفذتها في السياسة الخارجية، وهو ما يعكس تصوّرات وإدراك النخبة الإيرانية في رؤيتهم لذاتهم والمحيط الإقليمي.
لكن، هذه الأفكار والأهداف التي صِيغت منذ الثورة الإيرانية في ظل سياق إقليمي مختلف هل جرى تعديلها بما يتوافق والبيئة الإقليمية المتغيرة على مدار أكثر من 40 عاماً؟ وهل عدّلت إيران من أدوات سياستها الخارجية؟ إلى أي مدى تمكّنت إيران من تحقيق مصالحها الوطنية وتحوّلت من الثورية إلى دولة طبيعية؟ وهل تغيّر نمط تحالفات وعداءات النظام الإيراني بما يتكيف مع التغيرات الإقليمية؟
في ما يتعلق بالأفكار والقيم والأهداف الثورية، فقد تضمّن الدستور الإيراني لعام 1979 في ديباجته وكثير من مواده، النصّ على تأسيس الجيش العقائدي الذي تتجاوز مهمته حدود البلاد، بل حمل الرسالة الإلهية، وبسط حاكمية القانون الإلهي للعالم، هذا ما جرى التعبير عنه وترجمته حركياً في مفاهيم تصدير الثورة، ونصرة المستضعفين، ودعوة الإمام الخميني للحكومة الإسلامية العالمية.
واستمرت تلك المفاهيم مسيطرة على مبررات السياسة الإقليمية الإيرانية، وإن حدث تحوّل في بعض المفاهيم ظاهرياً، فلم يعد هناك تصدير الثورة كمصطلح بل كهدف، وذلك من خلال التدخل في دول بها صراعات وعدم استقرار سياسي، مثل حالة اليمن، كما كثّفت من بناء وتأسيس ميليشيات بصيغة مذهبية.
أيضاً، تحوّلت إيران من مفاهيم الحكومة العالمية الإسلامية ووحدة العالم الإسلامي في عهد الخميني إلى مفهوم الصحوة الإسلامية في عهد خامنئي، الذي نظراً إلى محوريته في خطاباته، عقدت له عدة مؤتمرات، بل وحاول إضفاء المفهوم على الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المنطقة، باعتبارها اتّخذت من الثورة الإيرانية نموذجاً يحتذى، وهو بالطبع ما ينافي واقع الاحتجاجات الشعبية التي رفضت تيار الإسلام السياسي.
وفي سياق معاداة الإمبريالية والقوى العظمى، فإن الموقف الإيراني لم يتغير على مدار العقود الأربعة، فموقف الخميني وخامنئي لم يتغير، أي أن القطيعة التامة عن الغرب لم تكن تعني غياب مساحات المصلحة، والتقارب على غرار واقعة (إيران غيت)، والتعاون في أفغانستان والعراق، وعقد مباحثات حول الاتفاق النووي بشكل سري قبل الإعلان عنها، ثم إتمامه، وحتى الإفراج عن بعض المعتقلين الأميركيين في عهد الرئيس دونالد ترمب.
كما تخلّت عن شعارات (لا شرقاً ولا غرباً)، التي رفعتها منذ تأسيس النظام، وهو ما يعني اتخاذ خط مغاير بعيداً عن التنافس بين المعسكرين الشرقي: السوفياتي، والغربي: الأميركي في السبعينيات، لكن تغير هذا التوجه فأصبحت إيران حليفاً لروسيا وصديقاً للصين، كما دعّمت إيران أرمينيا المسيحية في نزاعها مع آذربيجان الشيعية، وهو ما يعني عدم محورية الأيديولوجية محركاً للسياسة الخارجية لديها، بل المصالح بشكل واقعي كما هو متعارف عليه في العلاقات الدولية.
وكان يجب بدلاً من أن تتحوّل أفكار وأيديولوجية الثورة الإيرانية إلى مؤسسات، وهو ما تجلّى في تأثير الأفكار والتصورات على السياسة الخارجية، أن يكون هناك تقييم لنتائج تلك السياسة على مدار تلك العقود، من منطلق: هل نجحت في تحقيق اندماج إقليمي، ومن ثمّ حظيت بقبول جيرانها؟ هل وفّرت الأمن والاستقرار في العراق منذ سقوط صدام حسين؟ هل أصبحت إيران جزءاً من مؤسسات إقليمية تعمل على الاستفادة من موارد الشرق الأوسط وتحقيق تنمية إقليمية؟ وهل نجحت إيران في أن تكون جزءاً من أي ترتيبات أمنية بالإقليم؟
كل تلك الأهداف لم تتحقق، لأنه لم تتغير الطبيعة الصراعية للسياسة الخارجية الإيرانية، والمحكومة بإدراك صنّاع القرار الإيراني القائم على الخوف من إسقاط النظام واستعادة أحلام الإمبراطورية التوسعية.
تحتفل إيران بالذكرى الـ 41 لثورتها في وقت يتّسم سلوكها بغير الشرعية، ويُجرى اتباع سياسة المحاصرة والعزلة لها، وهو ما جعلها تقترب مما يعرف بـ(المنبوذ الإقليمي) في أدبيات العلاقات الدولية، فيتحوّل سلوكها إلى العدائية، وبناء تحالفات خارج الإقليم، وتبرز في الكتابات والمراكز البحثية الغربية بوصفها أحد مصادر تهديد الأمن الإقليمي للشرق الأوسط، سواء من خلال الهجوم على المنشآت النفطية في الخليج، وضد الولايات المتحدة نفسها، واستخدام الطائرات المسيّرة.
دأب النظام السياسي الإيراني منذ تأسيسه على إضفاء صبغة أخلاقية على السياسة الخارجية التي ترفع شعارات وقيماً تتجاوز الحدود الجغرافية لها، وذلك حتى تتسم بالقبول والمشروعية، لكنها تتطلب سياسة توسعية نشطة، وكلها مبررات تعكس تطلعات ما وراء الحدود.
هدى رؤوف
اندبندت العربي