المعادلات قاسية في حال العرب وإسرائيل حتى قبل خطة السلام الأميركية، إسرائيل تمارس استراتيجية “المعركة بين الحروب”، والعرب يعانون “القلق بين التسويات”. التطرف اليميني يزداد في تل أبيب بمقدار ما يميل العرب إلى الاعتدال. “الحرب هي الخيار الإستراتيجي” لإسرائيل، ولو تحدثت عن السلام. و”السلام هو الخيار الإستراتيجي” المعلن للعرب الذين خرجت الحرب من قاموسهم. الحد الأقصى للمطلب الفلسطيني والعربي هو “دولة فلسطينية في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية”. والحد الأدنى لما يعمل له نتنياهو هو “منع قيام دولة فلسطينية” ولو كانت كما بدت على خريطة الرئيس ترمب وصهره كوشنر نوعاً من “أرخبيل فلسطيني”. ولا أحد يعرف إن كانت خطة ترمب، هي آخر هدايا الرئيس الأميركي إلى نتنياهو. لكن أضعف سياسة في إدارة الرفض العربي والإسلامي الذي تقرر في الاجتماع الوزاري في الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية كما في اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في جدة هو الانتظار إلى ما بعد ترمب ونتنياهو.
ذلك أن ما يتركز عليه الرفض العربي حالياً هو “الخطة ألف” في إعلان الصفقة في حديقة البيت الأبيض. لكن التحدي السريع والمباشر الذي يواجهنا هو “الخطة باء” غير المعلنة. الأولى هي بالطبع دعوة الفلسطينيين والعرب إلى قبول الصفقة والتفاوض على أساسها، مصحوبة بمعادلة يرددها كوشنر بعد ترمب “خذوا المعروض عليكم واعملوا لتحسين حياتكم، أو استمروا في الرفض من دون الحصول على شيء”. والثانية هي قول الرئيس الأميركي “إذا فشلت الخطة، فإننا نستطيع التعايش مع ذلك”. كيف؟ بدعم نتنياهو في تنفيذ ضم المستوطنات وأجزاء من الضفة الغربية وإعلان السيادة الإسرائيلية على غور الأردن وشمال البحر الميت. فكل ما فعلته الإدارة حالياً هو مطالبة نتنياهو بأن يتريث في قرار الضم رسمياً إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية في مارس (آذار) المقبل. وأقل ما عمل له نتنياهو هو منع قيام دولة فلسطينية. وهو اتهم منافسه الجنرال بيني غانتس ورفاقه الجنرالات في حزب “أزرق أبيض” بأنهم “يساريون يريدون إعادة أراض إلى العرب”.
ولم يكتم القول “إن السماح بنقل الأموال القطرية إلى قطاع غزة هو جزء من إستراتيجية أوسع نطاقاً لإبقاء حماس والسلطة في حال انقسام، وهذا سيمنع إقامة دولة فلسطينية”. وآخر هموم ترمب هو قيام دولة فلسطينية بالمفهوم الذي يطالب به العرب، وإن كان في واشنطن من ينصح له بإيجاد تسوية للصراع العربي الإسرائيلي تساعده في الصراع مع إيران التي “ترسمل” على خطاب التمسك بالقضية الفلسطينية.
ولا شيء يوحي بأن الموقف الواحد من كارثة الصفقة الأميركية الإسرائيلية سيؤدي إلى إنهاء الانقسام بين “فتح” و”حماس” وانفصال غزة عن الضفة الغربية. أولاً لأن حماس جزء من حركة “الإخوان المسلمين”، وهي تخطط للسيطرة على الضفة بعدما سيطرت على غزة بانقلاب عسكري عام 2007، وأفشلت كل المساعي لإعادة توحيد السلطة الوطنية والمشاركة في منظمة التحرير. وليست هناك سابقة في تخلي حركة إسلام سياسي عن السلطة بعد الوصول إليها على الطريق “من النكاية إلى التمكين”.
وثانياً لأن “حماس” ترفض التفاوض على أية تسوية. وترفع لواء المقاومة لتحرير فلسطين كلها من البحر إلى النهر، في حين أن فتح تخلت عن المقاومة وكانت لا تزال على خط التفاوض على الحل النهائي بعد أوسلو، ولا يبدل في الأمر أن تقطع السلطة الاتصالات مع واشنطن وتل أبيب.
ومن طبائع الأمور أن ترفض طهران خطة ترمب، فهي ترفع شعار إزالة إسرائيل من على الخريطة، إلى حد أن مسؤولاً في الحرس الثوري ادعى القدرة على إزالة إسرائيل خلال “سبع دقائق ونصف الدقيقة”.
وهي تعمل على محاصرة إسرائيل بسور من الصواريخ والمقاومين في لبنان والجولان وغزة. وما لا يزال موضع أخذ ورد هو إن كان موقف إيران في الصراع العربي الإسرائيلي مجرد ورقة في صراعها مع أميركا أم أنه خيار إستراتيجي في النظام الإقليمي. لكن الواضح أن “العامل الإيراني” في الصراع العربي الإسرائيلي صار ورقة توظفها إسرائيل في رفضها قيام دولة فلسطينية. والحجة هي الخوف من سيطرة أنصار إيران على الدولة وتهديد إسرائيل. أما الحرب، فإن إسرائيل تقول بلسان رئيس الموساد يوسي كوهين “إيران تشكل تحدياً أمنياً، وليس خطراً وجودياً علنياً”، أي تعرف أنه لا حرب.
وما كان من المتوقع أن يذهب الموقف العربي إلى أبعد من رفض اللعبة الأميركية الجديدة، والحرص على البقاء في اللعبة القديمة، التفاوض على التسوية بإشراف دولي تحت سقف القرارات الدولية كمرجعية وحيدة. وليس من المفاجآت أن يراهن الفلسطينيون على الزمن والديموغرافيا واستحالة أن تلغي إسرائيل سبعة ملايين فلسطيني في الضفة والقطاع. ويروي المؤرخ برنارد لويس أن شخصية أردنية قالت له “لدينا الوقت، تخلصنا من الصليبيين والأتراك والبريطانيين وسوف نتخلص من اليهود”. فقال لويس “أنت تقرأ التاريخ خطأ. الأتراك تخلصوا من الصليبيين، والبريطانيون تخلصوا من الأتراك، واليهود تخلصوا من البريطانيين، فمن هو التالي؟”.
لكن من الصعب تصور مواجهة تنفيذ الصفقة من طرف واحد بالسياسة وحدها. فالحد الأدنى لضمان الحقوق هو منع التنفيذ. وقوة الأشياء تفرض قيام أشكال من المقاومة المسلحة والسلمية. والامتحان قريب.
رفيق خوري
اندبندت العربي