إن المسرحية المثيرة التي مثلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وكبار قادة حزبه الجمهوري في مبنى الكونغرس بواشنطن، يوم الاثنين الـ3 من فبراير 2020 فيما يسمى بخطاب الاتحاد، وما أطلقه الرئيس من سهام مسمومة ومميتة على خصومه الديمقراطيين، أزاحت الغشاوة عن عيوننا، نحن المغتربين العراقيين في الولايات المتحدة، وجعلتنا نتأكد من أن الضرب تحت الحزام بين السياسيين المتقاتلين على السلطة عندنا في العراق هو نفسُه هنا، مع اختلاف بسيط في الألفاظ والأقنعة والشعارات والأدوات والأساليب.
هنا وهناك معارك كسر عظم دامية يستخدم فيها كل حزب ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل، ومن مؤامرات وتلفيقات وثارات وتبادل إهانات، ولكن بأغلفة براقة من الديمقراطية وحب العدالة والدفاع عن القيم الوطنية ومبادئها المقدسة.
لم يكن يحدث هذا في تاريخ الولايات المتحدة الطويل. ويجمع المحللون والمؤرخون الأميركيون على أن حالة الديمقراطية الأميركية لم تصل إلى هذا الحضيض من قبل. ولكن الذي حدث، هذه المرة، شيء عادي جدا يحدث مثله في بلادنا أيضا، هذه الأيام، حين ينصر الحزب رئيسه، ظالما أو مظلوما، دون تدقيق وتمحيص، وبلا عقل وضمير.
فبعد أربعة شهور من انشغال النواب والشيوخ والقضاة وأجهزة الإذاعة والتلفزيون والصحف، ومن الجدل الحامي اليومي، في كل مقهى ودار وبار، فجأة، وفي ربع ساعة فقط، يصوّت الشيوخ الجمهوريون، جميعُهم، على براءة الرئيس، ما عدا واحدا هو السيناتور ميت رومني الذي صوّت بإدانة رئيسه بالتهمة الأولى تصفية لحساب قديم بينهما، وببراءته من التهمة الثانية إرضاء لحزبه ومن باب رفع العتب.
بالمقابل، يصوّت جميع الشيوخ الديمقراطيين على إدانة الرئيس، ولم يتخلف منهم واحد، قط.
والطريف هو ما حدث في حفلة إلقاء خطاب الاتحاد. فبدافع الكره والحقد، وربما الحسد أيضا، لم تُقدّم رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، لرئيس الولايات المتحدة ما جرت عليه العادة في مثل هذه المناسبة من تبجيل وتقدير واحترام. واكتفت بالقول “إليكم رئيس أميركا” فقط لا غير، وهي إهانة مقصودة وغير متوقعة من امرأة جاوزت الثمانين وتجلس على كرسي رئاسة نواب الأمة، وقد تصبح رئيسة الولايات المتحدة، وفق أحكام الدستور، إذا ما خلا منصب الرئيس ونائبه في يوم من الأيام.
ردّ عليها الرئيس بقسوة، ورفض مصافحتها، أمام مئات الملايين من البشر الذين كانوا يشاهدون هذه الحفلة، لترد عليه هي أيضا بتمزيق نسختها من خطابه، وعلى شاشات تلفزيونات الكرة الأرضية كلها، لأنها لم تجد فيه صفحة “لا تضم كذبة”، على حد تصريحها لاحقا.
والغريب أن أحدا من أتباعها النواب والشيوخ الديمقراطيين لم يعاتبها على تصرفها المعيب الذي لا يليق برئيسة نواب الأمة، بل استقبلوها بحفاوة بالغة تقديرا منهم لجرأتها وشجاعتها التي ليس لها حدود.
شيء آخر، إن كل ما فعله وما يفعله الرئيس الجمهوري، في أدبيات الديمقراطيين، خطأ ومعيب ومخالف للدستور. وفي نظر الجمهوريين لا يوجد شيء صحيح ووطني يستحق الاحترام في جميع ما يفعله الديمقراطيون.
وحين يتباهى ترامب بقتل قاسم سليماني واصفا إياه بأنه أخطر إرهابي بعد بن لادن وأبي بكر البغدادي، وحين يفاخر بمحاصرته الاقتصادية والسياسية والعسكرية للنظام الإيراني باعتباره الراعي الأول للإرهاب، ومبررا ذلك كله بحماية أرواح الأميركيين ومصالحهم، يخالفه الديمقراطيون، ويعتبرون اغتيال سليماني عملا أهوج مضرا بالمصالح الأميركية العليا، ويتخذون قرارا في مجلس النواب الذي يهيمنون عليه يقضي بتقييد يدي الرئيس فيما يخص إيران، ويمنعه من مهاجمة إيران، مستقبلا، إلا بإذنهم.
ألم تروا الـ”سي إن إن”، وهي لسان حال الديمقراطيين، كيف تجعل ”من الحبة قبة” لكي تثبت نازية ترامب، وفاشية أعوانه ومستشاريه، وكيف تتصيد أيّ خبر أو أيّ تصريح للمرشد علي خامنئي أو أحد معاونيه العسكريين والمدنيين، وتروّج له نكايةً بالرئيس، وكيف تلاحق أخبار الرئيس وقراراته وتصريحاته فتسخّفها، وتسخر منه ومنها، ثم تبشرنا بسقوطه عن قريب؟
وأخيرا. إن ما جرى يوم الأربعاء الخامس من فبراير 2020 لا يفعله إلا مقتدى الصدر وهادي العامري ونوري المالكي ومحمد الحلبوسي وأسامة النجيفي وجماعة كاكه مسعود وبقايا حزب مام جلال، وعلى الديمقراطية والعدالة والوطنية السلام.
العرب