يربط رئيس النظام السوري بشار الأسد بين ما أسماه “تحرير المناطق” والدولار الأميركي بشكل عكسي، إذ أن “تحرير منطقة قد يلغي الدولار الذي كان يأتي لصالح الإرهابيين والذين كانوا يصرفونه لشراء بضائع من جانب، أو لضخه من جانب آخر، وكانت إحدى أدوات الدولة هي الاستفادة من هذا الدولار. فالأمور ليست مطلقة بالطبع وأحد العوامل التي لا يعرفها الناس أن تحرير منطقة لا يخدم الليرة بالضرورة”، بحسب ما قاله في لقاء متلفز مع قناتين محليتين جرى بثه نهاية أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
إجابة الأسد السابقة كانت ردا على سؤال: ألا توجد إجراءات للدولة تستطيع أن تقوم بها فعلاً لتضبط سعر الصرف؟ حينها، أشار الأسد إلى وجود ما أسماه “إجراءات لا نستطيع أن نعلنها لأنها لعبة ذات طابع خفي”، فما هي تلك الإجراءات وكيف جمع النظام العملة الصعبة من مناطق الشمال السوري؟
تتبع الدولار
يصب الدولار الأميركي في الشمال السوري، عند مجموعة من كبار التجار يطلق عليهم “الشحينة”، والذين يُدخلون البضائع من مناطق النظام باتجاه المناطق المحررة، ويعمل هؤلاء في نقل منتجات الشمال وكذلك العملة الصعبة إلى مناطق سيطرة النظام، بحسب ما يوضحه الصراف، زكريا الشيخ والذي عمل في بلدة جرجناز التابعة لإدلب.
ويوضح الشيخ أن هؤلاء التجار لا ترتبط أسماؤهم بشركات معلنة، بل يقتصر عملهم على شراء العملة من الصرافين المتوسطين والكبار بسعر أعلى من السوق وعادة ما يبيع هؤلاء الدولار في مدينة حماة، بسعر أعلى من غيرهم. ويمر جمع الدولار وبيعه ونقله عبر سلسلة مترابطة من العمليات، تبدأ بتحويل الدولار الأميركي والعملة التركية الواصلة إلى أيدي الأهالي في الشمال إلى العملة السورية عبر الصرافين، إذ أن التعاملات التجارية اليومية من بيع وشراء، تتم بالليرة السورية بحسب الصراف، وهو ما يؤكده الدكتور أسامة القاضي، رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية، (كيان استشاري مستقل)، والذي لفت إلى أن النظام يستفيد من غياب آليات ضبط حركة العملة والصرافين في الشمال السوري.
“دولرة” الحوالات
تجري عمليات بيع وشراء الدولار عبر مجموعات عمل على تطبيق “واتساب” تضم قرابة 700 صراف يعملون في الشمال السوري، ويتم عبرها نشر سعر الدولار بشكل سريع وفق ما يقوله عصام الزهيري مالك مكتب صرافة في مدينة إدلب.
”
النظام أغرق الشمال بالأوراق النقدية من فئة 2000 ليرة سورية
“ويحدد نشاط الصراف وحجم التداول اليومي، المجموعات التي يمكنه دخولها على التطبيق، ويبلغ عدد العاملين بالصرافة في مدينة إدلب وحدها 230 صرافا، يتوزعون على 8 مجموعات عمل نشطة، إضافة إلى 10 مجموعات أخرى في سرمدا (المركز التجاري الأهم في إدلب ومكان تجمع رؤوس الأموال والشركات)، نتيجة لحجم النشاط الاقتصادي الكبير، فيما يتواجد تجار وصرافون من الشمال وآخرون من مناطق النظام في مجموعات أخرى مشتركة بحسب الزهيري، والذي لفت إلى أن ما يصل إلى الشمال السوري من حوالات بالعملة التركية يجري تحويلها إلى الدولار الأميركي، إذ يتم إعادة إرسال الليرة التركية التي تصل عبر مرتبات موظفي المنظمات وأموال المؤسسات والحوالات التجارية وغيرها إلى تركيا عبر مدينة الباب بريف حلب، لتصل إلى مكاتب الصرافة في تركيا حيث يتم دولرتها، وتعود مرة أخرى إلى الشمال المحرر.
وتشير التقديرات التي وثقتها معدة التحقيق، إلى أن حجم التداول اليومي في المجموعة الرسمية الأولى على تطبيق “واتساب” (تضم كبار الصرافين والتجار) والخاصة بنقابة الصرافين ومؤسسة النقد التابعة لهيئة تحرير الشام، يتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين دولار يوميا وفق ما يوضحه عضو الغرفة، الصراف أيهم أبو محمد مالك الذي أكد لـ”العربي الجديد” أن هذه النسبة تنخفض أثناء الحملات العسكرية والأوضاع الأمنية غير المستقرة في الشمال، وترتفع في أوقات الاستقرار وارتفاع الأسعار في مناطق النظام.
ويتواجد الصراف مالك في 7 مجموعات ناشطة في تجارة العملة الصعبة عبر “واتساب”، ويؤكد أن تلك المجموعات لها التأثير الأكبر في تحديد أسعار الصرف في مناطق الشمال، ويصل حجم التداول في شركة أيهم للصرافة، والتي تعد واحدة من 10 مكاتب كبيرة في سرمدا، إلى 500 ألف دولار أثناء نشاط السوق. فيما تتراوح النسبة عند حدود 150 ألف دولار و250 ألف دولار في الأيام العادية، منها حوالات فردية تصل يوميا لـ40 حوالة كحد أدنى بقيمة نقدية تصل إلى 15 ألف دولار، وترتفع في شهر رمضان إلى 300 حوالة يوميا تصل قيمتها النقدية إلى 50 ألف دولار تشمل تحويلات بالليرة التركية والدولار، وتكاد تنعدم تلك العمليات أثناء العمليات العسكرية كما يقول.
من يتحمل المسؤولية؟
يتهم المهندس فاضل دياب (تاجر لديه شبكة علاقات واسعة مع تجار ومتنفذين في إدلب)، هيئة تحرير الشام بالتواطؤ وغض الطرف عن تهريب الدولار لمناطق النظام قائلا: “بقليل من المال لأمير المعبر، يمشي الحال. هذا إن لم تكن لديه تعليمات بغض النظر كما اعتدنا”، مضيفا أن الأموال تنتقل من معبر العيس التابع لهيئة تحرير الشام إلى معبر الحاضر الذي تديره الفرقة الرابعة التابعة للنظام، بسلاسة وتنظيم.
ويقدر عبد الحكيم المصري، وزير المالية في الحكومة السورية المؤقتة (شكلها الإئتلاف الوطني والمعارضة السورية)، حجم الليرة السورية في الشمال بما يعادل 100 مليون دولار أميركي كما يقول لـ”العربي الجديد”، مؤكدا أن معظم الأموال تتركز في إدلب ومحيطها وهي تحت سيطرة هيئة تحرير الشام. لكن محمد طه الأحمد، وزير الزراعة الحالي ووزير الاقتصاد سابقا في حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، ينفي نقل الدولار عبر المعابر، قائلا: “ربما يكون هناك حالات فردية، إذ لا تخلو المعابر من تجاوزات سواء بالبضاعة أو الأوزان أو حتى تهريب العملة”.
بيد أن 7 من 10 صرافين التقتهم معدة التحقيق أكدوا تسهيل عناصر من هيئة تحرير الشام نقل العملة الصعبة ووصولها إلى جيب النظام، والذي اتبع سياسات اقتصادية هدفها استنزاف المناطق المحررة ماليا من خلال إغراقها بالليرة السورية، مقابل خروج الدولار، من بينهم الصراف محمد خالد شاكر، والذي أكد أن حركة التجارة والنقل والعبور، تحولت منذ منتصف 2017 إلى معبر العيس بريف حلب الجنوبي الذي تديره هيئة تحرير الشام. وتابع الصراف الذي عمل في بلدة سراقب قائلاً: “نعرف أن النظام لا يمكن أن يسمح لأحد بالعمل مع المناطق الخارجة عن سيطرته دون تغطية منه وتحقيق مصالحه”.
وسمح النظام للتجار والشركات بشراء وإدخال المواد والبضائع المختلفة وبأي كميات إلى المناطق الخارجة عن سيطرته في الشمال، سواء في إدلب أو مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، وفق ما قاله نزيه عبد الله، وهو مستشار مالي يعمل مع منظمات إغاثية في مناطق غصن الزيتون، والذي أضاف في إفادته لـ”العربي الجديد” أن “رخص أسعار المواد الغذائية وغيرها، نتيجة توفر المادة الخام وعدم وجود أسواق خارجية لتصريف المنتجات مع توقف عمليات التصدير بفعل العقوبات الدولية، يغري المنظمات العاملة في الشمال بشراء احتياجاتها من أسواق النظام، وهو ما يحتاج إلى استبدال دولار تلك المنظمات بالليرة السورية”.
ويصل عدد المنظمات العاملة في الشمال السوري إلى 240 مؤسسة إغاثية، بحسب تأكيد المهندس محمد الحلاج مدير فريق استجابة سورية (مجموعة تعمل على رصد وتوثيق حركات النزوح واحتياجاتهم). ويشكك الخبير الاقتصادي أسامة القاضي، في قدرة الحكومة المؤقتة على تنفيذ إجراءات ضبط سوق الصرف وعمليات التداول ومنع استنزاف النظام لدولار الشمال السوري، لكن عبد الحكيم المصري، وزير المالية في الحكومة المؤقتة، يقول إن الأمر يمكن أن يحدث في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، غير أنه يحتاج إلى تحضيرات وترتيبات قد تستغرق ستة أشهر على أقل تقدير، مضيفا أنهم بدأوا بخطوات عملية لتوعية الناس لاستيفاء أموالهم بالليرة التركية أو الدولار، وإلى عدم تداول الأوراق النقدية من فئة 2000 ليرة سورية.