بداهة، لم تعد سياسة التذاكي التي تناور بها إيران تخدع أحدا. بداهة أيضا أنّ لا خيط ولو رفيعا بين أهدافها وتحرك أدواتها أو تحريكها كلما أرادت تسجيل هدف ينسجم مع مشاريعها، رغم ما ألحقته بها العقوبات الأميركية،
باعتراف الرئيس حسن روحاني. لكن ما يثير الصدمة هو الإصرار على الخداع، وتوهّم الغباء لدى كل الذين دفعوا أثمانا باهظة لنهج إيران الساعي إلى إمبراطورية “خط المقاومة من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت”.
رغم كل ما حصل منذ قتل الأميركيين قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني والمواجهة الأميركية الإيرانية في العراق، واضح أن الرهان في طهران ما زال على سحب واشنطن قوّاتها من العراق “طوعا أو بالقوة”، كما يتوعد علي أكبر ولايتي.
الأكيد أيضا أن ترويج أنباء عن بدء الانسحاب الأميركي، ما هو إلا تكتيك إيراني لتذكير السلطة العراقية بأن عليها تنفيذ تبني الكتل الشيعية في البرلمان قرار إخراج تلك القوات، كثمن لمقتل “القائد سليماني الذي لم يكن يسعى سوى إلى الاستقرار والهدوء في المنطقة”!
العبارة لروحاني نفسه، الذي يتوهم أن شعوب المنطقة تناست ما فعله قائد الفيلق، لزرع ميليشيات تفكك دولا، أو تستبيح دماء مدنيين كما تفعل في العراق واليمن.
أهي صدمة أن يتحوّل سليماني إلى رجل سلام؟
الأصح أن تكون تلك “الأعجوبة” ضمن معزوفات الخطاب الإيراني، ولم يمض وقت طويل بعد على استعجال طلب الحوار مع دول الخليج، خصوصا السعودية والإمارات، وقبلها لم يكن مضى وقت على تجديد تحريض طهران لميليشيات الحوثيين، فهددوا السعودية والإمارات بضربات نوعية.
كل الإشارات الإيرانية، إن كانت توحي بشيء، فهو حتما ليس
الانقلاب على سياسة تصدير ثورة النظام، بل الانحناء التكتيكي أمام مفاعيل العقوبات وخسارة التردد الأوروبي الذي بات يحاكي التشدد الأميركي.
وما يداني الصدمة وجهها الثاني العراقي، الذي بات يمثله بامتياز مقتدى الصدر زعيم تحالف “سائرون”، إذ يسير بالعراقيين إلى مزيد من المذابح، وهو تارة يتضامن مع الثوار وتارة يغزو ساحاتهم، إنما من أجل “تنظيفها”!
مـن يقتدي بمقتدى في حرصه على “تطهير” ساحات المحتجين الذين قدموا ستمئة شهيد؟
تارة ينصّب الصدر نفسه كأنه “أبو الثوار”، وأخرى يرسل شبيحة ميليشياته لمطاردتهم بالعصيّ والسكاكين. ما يثير صدمة فعلية هو انحدار الخطاب السياسي لزعماء ميليشيات في العراق، لم يلقنهم شيئا الجلوس على مقاعد ممثلي شعب اختارهم ليخدموه، فاغتالوا كرامته باقتسام البلد ونهب ثرواته، بحماية العمامة الإيرانية.
“تنظيف” ساحات الشهداء، عبارة لم تعد تبطن شيئا بعد كل ما أفصح عنه من يدّعي الحرص على سيادة العراق ورفض التدخلات الأجنبية. كأن تدخلات إيران ووصايتها عراقية. كأن مقتدى لم يع درس الثورة التي نادت بخروج الإيراني والأميركي.
ولايتي “يقاوم” وسليماني “رجل سلام” ومقتدى الصدر “ينظف”! كل ما يقوله المنتفضون في العراق إنّ ساعة الحقيقة حانت، وإن إعادتها إلى وراء، على عقارب إيرانية، باتت مكلفة جدا لطهران وأدواتها.
أما “المندسّون” الذين يؤرّقون الصدر، فيندفع لقتل الثوار بحثا عن الأفعى، فلعلهم يطمئنون إلى جحيم تهديده لرئيس الوزراء المكلف محمد علاوي، إذا اختار وزراءه من أحزاب المحاصصة! والجواب لفهم المعادلة والأهداف السحيقة لمقتدى، عند “أبو” المحاصصة، وصاحب مهمة “تنظيف” ساحات الشهداء.
العرب