أطلق رئيس حزب الحركة القومية التركي دولت بهجلي، يوم الثلاثاء، تصريحات لافتة ضد نظام الأسد الكيماوي، لم نسمع ما يشبهها منذ سنوات. فقد قال إن على تركيا أن تستعد للزحف إلى دمشق وإسقاط النظام هناك، فلن ترتاح تركيا وتطمئن لأمنها القومي قبل رحيل هذا النظام!
جاء هذا الكلام أثناء الاجتماع الأسبوعي للمجموعة البرلمانية للحزب، حيث جرى التقليد أن يلقي رؤساء الأحزاب الممثلة في البرلمان كلمات حماسية أمام نواب حزبهم، يوم الثلاثاء من كل أسبوع، يقيّمون فيها آخر التطورات السياسية ويطلقون رسائل سياسية غالباً ما يتبعها سجال بين مختلف التيارات السياسية في المنابر الإعلامية الموجهة للرأي العام الداخلي. من مأثورات الحياة السياسية في تركيا كلام منسوب للرئيس الراحل سليمان دميريل أبدى تذمره فيه من يوم الثلاثاء. فرئيس الحزب ملزم، بموجب هذا التقليد، بتحديد مواقف من مختلف الموضوعات التي تشغل الرأي العام، ويحدث أن يتورط في إطلاق تصريحات لا قبل لحزبه بتحمل تبعاتها، سواء كان الحزب في السلطة أو في المعارضة.
حزب الحركة القومية الذي يرأسه بهجلي حليف لحزب العدالة والتنمية الحاكم من غير أن يشاركه في ائتلاف حكومي. ويبرر بهجلي هذا التحالف الذي خاض حزبه، في إطاره، انتخابات برلمانية ورئاسية ومحلية، إضافة إلى الاستفتاء على النظام الرئاسي، في السنوات الثلاث الماضية، بأن الحكومة استبطنت التوجهات القومية المتشددة ضد حزب العمال الكردستاني وواجهاته السياسية وقاعدته الاجتماعية وامتداداته في سوريا. أضف إلى ذلك أن حزب بهجلي القومي لم يعارض التدخل التركي في الصراع السوري، بما في ذلك هدف إسقاط نظام دمشق، حتى حين كان في مواقع المعارضة السياسية، وذلك بخلاف حزب الشعب الجمهوري الذي عارض التدخل منذ البداية، وقامت وفود برلمانية منه بزيارات عدة إلى دمشق للقاء برأس النظام، وبخلاف حزب الشعوب الديمقراطي، أيضاً بطبيعة الحال، الذي يشكل المنظور الكردي أساس مواقفه من الصراع في سوريا ومن التدخل التركي في هذا الصراع. فلا مشكلة للحزب الكردي مع نظام دمشق، ما دامت قواته لا تهاجم المناطق الكردية في سوريا، في حين أنه يعارض بشدة عمليات الغزو التركية للمناطق المتاخمة للحدود ذات الغالبية السكانية الكردية التي كان حزب الاتحاد الديمقراطي يسيطر عليها.
تركيا المندفعة إلى خوض مغامرات خارجية في سوريا وليبيا، والمحشورة بين حليفين لدودين، موسكو وواشنطن، لا تملك مقومات داخلية صلبة للفوز في تلك
مع كل هذه الاعتبارات يبقى كلام بهجلي بشأن وجوب إسقاط نظام الأسد الكيماوي غريباً، بعدما مضت الحكومة بعيداً في شراكتها مع روسيا في إطار آستانة، وبعد تصريحات عدة لمسؤولين فيها عن قبولهم، وإن على مضض، ببقاء نظام الأسد في أي ترتيبات لحل سياسي محتمل، وبعد الإعلان عن أول لقاء جمع، في موسكو، بين هاكان فيدان وعلي مملوك، رئيسي جهازي الاستخبارات في تركيا ولدى النظام الكيماوي. يبقى الشيء الأساسي لبهجلي هو مخاطبة الرأي العام الداخلي، أي أن تصريحاته المتعلقة بالسياسة الخارجية تتعلق بالسياسة الداخلية أكثر من علاقتها بتوجهات خارجية. فأمام توالي أخبار وقوع قتلى في صفوف الجيش التركي بنيران ميليشيات نظام الأسد، ما كان لبهجلي أن يلزم الصمت. فللمرة الثانية خلال أسبوع تهاجم مدفعية ميليشيات الأسد قوات تركية في محافظة إدلب، فيقع خمسة جنود قتلى، إضافة إلى عدد من الجرحى. بهذا المعنى لا شيء مفاجئاً في ارتفاع نبرة الرجل ضد سفاح دمشق. لكن الرجل لم يقصر هجومه على النظام الكيماوي، بل تناول أيضاً ظهيره الروسي، داعياً الحكومة إلى «إعادة النظر في العلاقة مع روسيا». هذه الإضافة هي الأهم في تصريحات بهجلي، وتستحق التوقف عندها ملياً. فهل كان ذلك مجرد امتداد منطقي لدعوته لإسقاط نظام الأسد، بما أن المذكور لا يمكن أن يتخذ قراراً بحجم قتل جنود أتراك ما لم يحصل على موافقة روسية، فيكون كلامه بشأن روسيا أيضاً من نوع حماسيات أيام الثلاثاء التي لا تقدم ولا تؤخر؟ أم أن الرجل وجّه رسالة متشددة إلى روسيا كناطق غير رسمي باسم الرئيس أردوغان وحكومته، بالنظر إلى فشل الاجتماعات بين الوفدين الروسي والتركي، في أنقرة، بشأن إدلب يوم الاثنين؟ وهل تشمل «مراجعة العلاقة مع روسيا» التي دعا إليها بهجلي فكاً للتحالف مع «التيار الأوراسي» الذي يمثل حزب الوطن برئاسة دوغو برينجك ممثله الأبرز؟
على رغم الهجومين المتتاليين اللذين تعرض لهما الجنود الأتراك، لا تملك أنقرة خيارات كثيرة غير الرد الموضعي على قوات الأسد الزاحفة، تحت المظلة الجوية الروسية، لابتلاع المزيد من المساحات في محافظتي إدلب وحلب. أما موسكو فلا يبدو أنها ستلين أمام مناشدات القيادة التركية لوقف الحرب. وهكذا لم يسفر الاتصال الهاتفي المتأخر بين بوتين وأردوغان، صباح الأربعاء، إلا عن إعلان روسي عن «توافق الرئيسين على التمسك باتفاق سوتشي» وذلك بعدما صرف أردوغان، بوصفه رئيس حزب العدالة والتنمية، كلاماً بشأن «وقف الالتزام» بالاتفاق المشار إليه، ومهاجمة قوات النظام «في كل مكان» إذا تعرضت القوات التركية لأي هجوم جديد. جاء هذا الكلام، بدوره، في اجتماع الثلاثاء الأسبوعي لنواب العدالة والتنمية في البرلمان، حيث قدم الرئيس عرضاً وافياً للوضع السياسي، مركزاً على الوضع الميداني في إدلب. وإذ انتقل إلى الحديث عن الوضع الاقتصادي وصمود الاقتصاد التركي أمام التحديات بفضل القرارات الحكومية المناسبة، قاطعه أحد الموجودين في القاعة وقال بصوت مرتفع إنه كان ممن ناضلوا ضد الحركة الانقلابية الفاشلة لجماعة فتح الله غولن، في تموز 2016، وأنه فصل من وظيفته بعد ذلك باتهامات باطلة، وأن أطفاله في البيت جائعون!
يمكن اعتبار هذه الحادثة تكثيفاً مجازياً لوضع تركيا في لحظتها الراهنة: فتركيا المندفعة إلى خوض مغامرات خارجية في سوريا وليبيا، والمحشورة بين حليفين لدودين، موسكو وواشنطن، لا تملك مقومات داخلية صلبة للفوز في تلك الصراعات الدولية المعقدة، فاقتصادها ليس بخير، ويعاني المجتمع من مظالم.
بكر صدقي
القدس العربي