لا يحتاج المراقب السياسي، إلى عناء في التفكير، أو صعوبة في التفسير، وهو يطّلع على تصريحات كاظم العيساوي المعاون الأمني والعسكري لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، فهي واضحة تماماً، في توقيتها وخطورتها، والجهة المعنية بها، والمتمثلة برئيس الحكومة المكلف محمد توفيق علاوي، الذي يواجه مشكلات، لا حصر لها، مع الأطراف السياسية المتنفذة، والكتل النيابية المؤثرة لتشكيل حكومته الموعودة، وأغلب الظن، أنه لن ينجح في مهمته، خلال المهلة الدستورية الممنوحة له (30 يوماً )وتنتهي في الثاني من الشهر المقبل.
والذين يعرفون العيساوي، الملقب (أبو دعاء)، وتابعوا أدواره السابقة، على الرغم من أن الصدر، قد طرده من التيار، وشنّع به، العديد من المرات، آخرها في العام الماضي، عندما هاجم صدريو النجف، مجمعاً تجارياً يملكه في قلب المدينة، وأشعلوا النار فيه، قبل أن يصفح عنه (سماحة القائد) لاحقاً، ويعيده إلى عمله في صفقة، لسنا في معرض الخوض فيها، يعرفون أيضاً أنه ليس رجل إعلام أو مؤتمرات صحافية، فهو يعمل في الظل والخفاء، بعيداً عن الأضواء، فهذه المهمة عادة، مناطة بالشيخ صلاح العبيدي، ولكن كما يبدو، فإن زعيم التيار الصدري، خوّله إطلاق مثل هذه التصريحات النارية، كرسالة، ليست إلى علاوي فحسب، وإنما إلى الأحزاب والكتل والفصائل الشيعية، وإفهامها أن المرحلة الراهنة، عسكرية في سماتها، وذات طابع تصادمي في مسارها، وعليها الانصياع له، بصفته الزعيم الشيعي الأعلى، خصوصاً، بعد أن أضاف إلى القابه الكثيرة، لقب زعيم المقاومة الدولية ضد الاستكبار العالمي بدعم إيراني.
الأزمة تتفاقم يوماً بعد يوم والتصدي لها يكون بمشروع وطني شامل، يقوم على إنقاذ العراق، وتقويم سياساته الداخلية والخارجية
الصدر، في تصريحات العيساوي، أراد أن يُبلغ محمد توفيق علاوي مباشرة، أنه المرجعية السياسية للشيعة، ويجب العودة إليه، وأنه لن يقبل توزير أعضاء، من الأطراف والفصائل الشيعية الأخرى، لأنه يريد الوصاية (الأبوية)، كما يسميها أتباعه، لوحده عليها، وهو الذي أعلن، في وقت سابق، أن علاوي مرشح (الشعب) وهو إعلان لم يجرؤ على إطلاقه المكلف بتشكيل الحكومة نفسه.
إن زعيم التيار الصدري بات، اليوم، على قناعة بأنه يحتاج إلى قاعدة حكومية، تعوض خسارته لقاعدته الصدرية، التي تعرضت إلى الاهتزاز، بعد خروج كوادر وأنصار منها، أبرزهم الشيخ أسعد البصري، مسؤول التيار في البصرة، وأيضاً لمواجهة السخط الشعبي الواسع عليه في بغداد ومحافظات الفرات الأوسط والجنوب، ذات الكثافة السكانية الشيعية، بعد هجمات ميليشيا سرايا السلام وجماعات القبعات الزرق، التابعتين له على ساحات التظاهرات، وقتل شبابها، وإحراق خيمهم، كما حدث في العاصمة والنجف وكربلاء والناصرية والبصرة والعمارة والكوت، وهو يوحي إلى المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة أيضاً، بأنه إذا التزم بشروطه، وشكّل حكومته، وفقاً للمواصفات، التي أعلنها العيساوي، فإنه سيقف معه ويدعمه، بالتظاهرات الصدرية، التي ستطوق المنطقة الخضراء وتُجبر البرلمان على تزكيته بالغصب والقوة.
ومما يؤيد هذا الرأي، أن تصريحات (أبو دعاء) ترافقت مع وثيقة أصدرها مقتدى الصدر، من مقره في مدينة قم الإيرانية، وتتضمن 18 بنداً، لا جديد فيها، وإنما تدور ضمن سياقات سياسية مكررة، سبق لزعيم التيار الصدري، أن أعلنها في تغريدات متتالية، سواء تلك التي نشرها عبر حسابه الشخصي، أم من خلال صفحة (صالح العراقي)، الذي تشير المعلومات إلى أنه أحمد الصدر ابن شقيقه مؤمل الصدر، فهي تدعو إلى إصلاح النظام السياسي القائم، من دون أن يقدم رؤية واضحة المعالم والمعطيات، للتغيير وعبور الفساد المستشري في مفاصل البلاد، وتجاوز الطبقة السياسية المتنفذة، التي يشكل التيار الصدري، أبرز أركانها، وله وزارات ونواب ومحافظون وقادة أجهزة حكومية وأمنية، وميليشيات، ومكاتب اقتصادية، تدير العقود التجارية، وتستثمر في الصفقات. لقد وضع مقتدى الصدر، بوثيقته وتصريحات معاونه العيساوي، محمد علاوي المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة، في دائرة ضيقة، وحدّد مسّبقاً، حركته ومشاوراته، ومحمد علاوي، كما نعرفه، من خلال مواقعه الوزارية والنيابية السابقة، ليس من النوع، الذي لديه ثبات على مواقفه، وهو غير قادر، على المجابهة مع قوى أكبر منه، تمتلك النفوذ، ولها أذرع علنية وخفية، في جميع الوزارات، وقوات الجيش والشرطة والأمن، ومن التجربة، فإنه، وهذه حقيقة معروفة عنه، لما شغل وزارة الاتصالات في حكومة نوري المالكي الثانية (2010 ـ 2014) استقال منها، بعد عامين على استيزاره، بسبب إخفاقه، في نقل مستشارة فنية، كانت تتصرف بمعزل عنه، إلى خارج وزارته، على الرغم من أنه صاحب صلاحية اتخاذ مثل هذا القرار، أو غيره مما يسمى بـ(الإجراءات الداخلية)، التي لا تحتاج إلى موافقات جهات أعلى، ثم أن علاوي، ليس مسنوداً، من جهة سياسية، أو كتلة نيابية، وتأييد الصدريين (المشروط) له، لا يكفي لتمرير حكومته، وسط غضب المتظاهرين عليه، وإعلانهم معارضته. إن الأزمة الحالية، التي يمر بها العراق، وهي امتداد لأزمات سابقة، طفحت على السطح، منذ الاحتلال الأمريكي في إبريل/ نيسان 2003، باتت عصية على الحل، في وجود طبقة سياسية، استقوت بالأموال التي جنتها من عمليات الفساد والصفقات، وأسلحة وميليشيات تعتمد عليها، في تنفيذ أجندتها، بالإضافة إلى الدعم الإيراني لها، ومن الخطأ الاعتقاد، أن رحيل حكومة عادل عبدالمهدي، ومجيء حكومة محمد علاوي، من شأنه حل الأزمة، التي تتفاقم يوماً بعد يوم، وباتت تستدعي حلولاً غير تقليدية، ومعالجات غير سطحية، وإنما يكون التصدي لها، بمشروع وطني شامل، يقوم على إنقاذ العراق، وتقويم سياساته الداخلية والخارجية، عبر البناء والتنمية، وإشاعة التعددية والديمقراطية، بلا اجتثاث أو إقصاء أو تمييز، والعمل على حصر السلاح المنفلت، وتثبيت دعائم السيادة الوطنية، ومنع التبعية، لدول إقليمية وأجنبية، وهذه مبادئ وأهداف، لا يقوى على تحملها وتنفيذها، سياسيون يفتقرون إلى الحس الوطني، وتنقصهم الخبرات في إدارة الدولة، حتى لو شكّلوا عشرات الحكومات، ثم لماذا الإصرار على أن يكون رئيس الحكومة شيعياً، مع أن الدستور، المعمول به حالياً، لا ينص على ذلك؟ في حين أثبتت حكومات إبراهيم الجعفري، ونوري المالكي، وحيدر العبادي، وعادل عبدالمهدي، حقيقة لا نقاش فيها، تتمثل في أن قادة الاحزاب الشيعية، لا يصلحون لرئاسة الحكومات، أو إدارة الدولة، لأنهم أصحاب عقيدة طائفية، وما زالوا يتشبثون بعقلية المعارضة، لنهوض العراق وتقدمه، وإنما يعملون على مواصلة تخريبه، والاستحواذ على موارده، واختلاس ثرواته، ونشر الخرافات والبدع فيه، ومثل هؤلاء لا يبنون بلداً، ولا يخدمون شعباً. ويبقى الأمل، في ثورة الشباب، وأصالة وعيهم، ومتانة أفكارهم، وصمود وقفاتهم، للتخلص من الوجوه العابثة والفاسدة والمتآمرة على مستقبل العراق.
هارون محمد
القدس العربي