لا يزال مطلب محاسبة قتلة المتظاهرين هو الأول في تسلسل مطالب ساحات الاحتجاج العراقية، مع استمرار المخاوف من عدم إمكانية تحقيق ذلك في ظل حكومة توافقية بين الكتل السياسية الرئيسة، إذ يرى مراقبون أن هذا التوافق يقلل من احتمالية أي ملاحقات للمتورطين بقمع المحتجين، على الرغم من التعهدات التي قدمها رئيس الوزراء المكلف محمد توفيق علاوي في هذا السياق.
وبلغ عدد ضحايا الحراك الاحتجاجي نحو 600 قتيل وأكثر من 25 ألف جريح، وفق منظمات عراقية ودولية.
وكانت السلطات الرسمية قد أقرت في وقت سابق، باستخدام قواتها العنف المفرط في التصدي للمحتجين، إلاّ أنهّا تتهم جهات مجهولة بعمليات قنص حصلت في الموجة الأولى للاحتجاجات مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وفيما يتهم ناشطون فصائل مسلحة وأحزاباً سياسية رئيسة بالوقوف وراء عمليات قتل وخطف طالت متظاهرين، تتهم تلك الجهات من أسمتهم بـ”الطرف الثالث” بالمسؤولية عنها.
مبادرة إياد علاوي
في غضون ذلك، وجّه زعيم ائتلاف الوطنية إياد علاوي، الأربعاء 12 فبراير (شباط) رسالة عبر حسابه في “تويتر” إلى المحتجين، قال فيها “أهيب بالإخوة المتظاهرين إيصال أسماء أولئك القتلة، وتوثيق حالات الاعتداء ليتم تقديمها للمحاكم الجنائية العراقية والدولية”.
وكان قد أشار في وقت سابق إلى أنه “أرسلت رسالة للسيد أنطونيو غوتيريش وجامعة الدول العربية والسادة وزراء خارجية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إضافةً إلى منظمة المؤتمر الإسلامي لبيان حقيقة ما يجري في العراق وضرورة محاسبة المتورطين بسفك دماء المتظاهرين الأبرياء وتقديمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية”.
وأكد أنه لن يشترك في التشكيلة الحكومية العتيدة التي وصفها بأنها “جاءت بإرادة خارجية وبحماية الميليشيات على حساب دماء الأبرياء”.
وكان عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية كاطع الركابي، قد أعلن أخيراً “اكتمال جميع التحقيقيات البرلمانية بشأن التظاهرات باستثناء ما يخص أحداث محافظة ذي قار”.
وبيَّن في تصريحات صحافية أن “اللجنة رفعت نتائجها إلى رئاسة البرلمان، وهناك لجنة شُكّلت من قبل الحكومة ويمكن النظر إلى تحقيقات اللجان الحكومية والبرلمانية ليتم بعدها إعلان النتائج في غضون أسبوعين”.
توافق يمنع المحاسبة
ويُعدُّ رفض التوافقات والمحاصصة الحزبية والطائفية أحد أبرز مطالب المحتجين، الذين يرون أن تلك التوافقات أتت بكل الحكومات السابقة التي فشلت في تلبية متطلبات العراقيين.
في السياق، اعتبر الكاتب والصحافي علي رياض أن “أي حكومة ائتلافية تشترك فيها جميع الكتل لن تؤدي إلى محاسبة قتلة المتظاهرين”، موضحاً لـ”اندبندنت عربية” أن “المواصفات التي وضعها المحتجون جاءت لكسر الآلية القديمة المتّبعة في اختيار رئيس الوزراء والمتعلقة بالتوافق الحزبي والتي تسلب صلاحيات رئيس الوزراء”.
ولفت إلى أن “رفض المحتجين لعلاوي، ليس لتخوينه أو المساس بشخصه لكن الآلية التي أتت به خاطئة وسيئة، وهي الآلية ذاتها لاختيار عبد المهدي التي تمنع محاسبة القتلة”.
وأشار إلى أن “الدليل على عدم صلاحية هذه الحكومة لتلبية مطالب المحتجين، في الخلافات الدائرة بين الكتل السياسية حول التشكيلة الوزارية”.
لا محاكمات ستحصل
في مجال متصل، رأى الباحث في الشأن السياسي سرمد البياتي أن “الرفض الاحتجاجي متأتٍ من أن القوى التي قدمت علاوي، ليس لديها ثقل في ساحات الاحتجاجات ولا تحظى بقبول فيها”، لافتاً إلى أن “كتلة سائرون تقول إنها لا تدعم ولا تمانع ترشيحه”.
وأضاف لـ”اندبندنت عربية”، “ما تسرب عن علاوي بأنه قد يكون شبيهاً أو أضعف من عبد المهدي، وهذا ما وصل إلى الشارع العراقي، لذلك هناك تخوّف ممّا قد يحصل نتيجة ضعف الإدارة”، مبيناً أن “الوضع في البلاد يحتاج إلى ضبط بعد التدهور الحالي”.
وتوقع أن “أي محاكمات واضحة لن تحصل والكل يتهم الكل، لذلك سيلجؤون إلى عدم التطرق للمحاكمات، إذ ترى القوى السياسية أن تلك المحاكمات قد تؤدي إلى إشكالات كبيرة في ما بينها”.
وكشف البياتي عن “تحرك كبير في الخارج من منظمات وعراقيين في إطار محاسبة قتلة المحتجين”، متوقعاً أن “تكون الولايات المتحدة هي اللاعب الأكبر في هذه القضية التي جمعت عدداً كبيراً من الوثائق والأفلام عن هذا الأمر منذ 1 أكتوبر حتى الآن”.
تابع أنه “ربما ستستخدم الولايات المتحدة هذه الورقة لاحقاً عند الضغط عليها لإخراج قواتها من العراق”، مرجحاً ألّا تكون هناك محاكمات داخلية أو خارجية في الوقت الحالي.
محكمة متخصصة
أما القانوني علي التميمي، فقال إن “القانون العراقي في شقَّيْه العسكري والمدني يعاقب على القتل والاعتداءات بحق العراقيين، لأن الدستور أتاح حق التظاهر في المادة 38 منه”.
وأضاف لـ”اندبندنت عربية”، “اقترحنا إنشاء محكمة متخصصة لمحاكمة القتلة، تُشكّل بطلب من رئيس الوزراء الجديد إلى مجلس القضاء الأعلى أو رئيس الجمهورية أو الادّعاء العام، تتولى المحاكمات حسب الأدلة”، مبيناً أن “رئيس الوزراء السابق سيكون مسؤولاً أوّلاً عن هذه الجرائم، فضلاً عن القادة الأمنيين”.
وعن ملاحقة قتلة المحتجين خارجياً، أشار التميمي إلى أن “العراق غير منضم إلى اتفاقية روما المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية، لذلك لا يمكنها أن تتحرك بشكل تلقائي”، مردفاً “هناك حلول عدة لهذه الإشكالية، أحدها أن يحيل مجلس الأمن هذا الملف إلى المحكمة”.
ولفت إلى أنه “بالإمكان إقامة الشكاوى على المتهمين من حملة الجنسية الأجنبية في الخارج”، موضحاً أن “مجموعة من المحامين أقامت على عبد المهدي دعاوى لكونه يحمل الجنسية الفرنسية”.
سيناريو مكرر
في السياق ذاته، قال الكاتب والناشط علي المياح إنه “لا يمكن التنبؤ حالياً بمدى تأثير التوافقات السياسية في مسألة محاسبة القتلة، لكنها بالتأكيد لن تسمح بالإطاحة برؤوس كبيرة كانت لها اليد الطولى في قمع الاحتجاجات”.
وأضاف لـ”اندبندنت عربية”، “في ظل الظروف الحالية، نتوقع تكرار سيناريو لجنة التحقيق التي شكلتها حكومة عبد المهدي بعد الموجة الأولى لانتفاضة تشرين، فتمت التضحية ببعض كبار الضباط وإحالتهم إلى المحاكم العسكرية”، مردفاً أن “الاحتجاج مستمر بشكل عام، لكن عملية التطبيع مع علاوي وتقبّل وجوده في هرم السلطة، قد بدآ حتى قبل تكليفه”، ومعتبراً أن “هذا يقلّص الخيارات المتاحة أمام المحتجين”.
ناشطون: التصعيد آت
“التوافق السياسي بين الكتل على أساس حزبي أو طائفي هو أحد مرتكزات الفشل في أداء النظام الحالي. بالتالي، فإن كل مخرجاته ستفشل أيضاً”، بحسب الناشط محمود حميد، الذي أضاف لـ”اندبندنت عربية”، “الخلاف هو على مجيء علاوي عبر ذات الآلية، ونرى أنه سيكون استمراراً لمسيرة الفشل المرافقة لهذا النظام”.
وتابع أن “الاحتجاج لم يصل إلى طريق مسدود، وخرج لما هو أكبر من مسألة رئيس الوزراء، بل حزمة القوانين الانتخابية والانتخابات المبكرة”، مشيراً إلى أن “أمام علاوي قضايا عدة، أبرزها محاسبة القتلة وحصر السلاح بيد الدولة وإجراء انتخابات مبكرة بأجواء مناسبة”، ومردفاً “إذا لم يحقق ذلك، فسيكون التصعيد مقبلاً لا محالة”.
أما الناشط زيدون عماد، فرأى أن “غالبية الكتل مشاركة بطريقة أو بأخرى مشاركة في قتل وقمع المحتجين في ساحات الاحتجاج. لذلك، فإن عملية التوافق في توزيع المناصب السياسية معناه التستر على القتلة كما حصل سابقاً في قضية سبايكر وسقوط الموصل وباقي الجرائم”.
وكانت حكومة عبد المهدي قد أعلنت في 22 أكتوبر، نتائج اللجنة التحقيقية المشكَّلة بشأن القمع الذي جوبهت به الموجة الأولى للاحتجاجات، وأقرت فيها باستخدام الرصاص الحي، معلّلة ذلك بـ”عدم ضبط النار” من قبل عناصر في القوات الأمنية، وضعف قيادة وسيطرة للقادة الآمرين، لكن تلك النتائج واجهت هجوماً واسعاً من قبل المحتجين والشارع العراقي.