إلى أين تتجه الأوضاع في منطقة إدلب؟ هل ستكون هناك مواجهة فعلية بين القوات التركية وقوات النظام، وذلك في حال عدم انسحاب هذه الأخيرة إلى مواقعها السابقة بالنسبة إلى نقاط المراقبة التركية، بموجب التهديد الذي أطلقه الرئيس التركي أردوغان، وشدد عليه في أكثر من مناسبة؟ أم أن الأمور لا تخرج عن نطاق الحرب الإعلامية، والرسائل المتبادلة بين مختلف الأطراف المنخرطة في الملف السوري، هذا بغض النظر عن التسريبات التي تتحدث عن وجود خلافات تركية ــ روسية حول ترتيب الأوضاع في منطقة إدلب؟ ولعل التصريحات الأمريكية المبهمة حول وقوف الولايات المتحدة والناتو عموما إلى جانب “الحليف التركي” توحي بوجود أساس لتلك التسريبات، ولكن من دون تحديد أبعادها ودرجة قوتها، من ثم قدرتها على إعادة النظر في الاصطفافات والتحالفات الآنية والمستقبلية.
هل سنكون أمام منطقة حظر جوي بمشاركة تركية أساسية على الأرض، وتغطية جوية سيتكفّل بها الناتو؟ أم أن الأمور لن تخرج عن نطاق توافقات وتفاهمات مسار أستانا- سوتشي، وهذا فحواه أن مهمة القوات التركية الكبيرة التي دخلت إلى الأراضي السورية، ومنطقة إدلب تحديداً من دون أي اعتراض فعلي، أو مقاومة ملموسة، سواء من جانب الروس أم النظام، لن تتجاوز حدود منع مختلف الفصائل المسلحة “المعارضة” من عرقلة تطبيق الاتفاقيات التي كانت؟
هل ستسمح الولايات المتحدة للروس بالاستفراد بملف كامل محافظة إدلب؟ أم أنها ستدعم تركيا في مساعيها الرامية إلى منع قوات النظام من الوصول إلى مدينة أدلب نفسها، وإلى الحدود التركية السورية، هذا على الرغم من التوافق المبدئي الحاصل بين الروس والأمريكان حول توزيع مناطق النفوذ، وهو الاتفاق الذي كان منذ ايام الرئيس الأمريكي السابق أوباما، ويبدو أنه ما زال ساري المفعول في عهد خلفه الرئيس ترامب؟
أسئلة كثيرة مشروعة تطرح بقصد معرفة طبيعة السيناريوهات التي يمكن اعتمادها للتكهّن بما سترسو عليه الأمور في نهاية المطاف. وإلى ذلك الحين، تستمر مأساة السكان المدنيين في المنطقة، ومعظمهم من النساء والأطفال. وهي مأساة تتفاقم حجماً وصعوبة مع تزايد عدد المدن والبلدات التي تتقدم فيها قوات النظام بدعم شمولي من جانب الروس، خاصة الطيران، بالإضافة إلى مشاركة القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها.
ومن الواضح أن كل ما يجري إنما هو حصيلة اتفاقيات وتفاهمات مسار أستانا – سوتشي، وهو المسار الذي يجمع بين روسيا وإيران وتركيا، وبغطاء سوري شكلي، لا حول له ولا قوة، سواء من جهة النظام أم من جهة المعارضة الرسمية.
وما يستنتج من سير المعارك، وتحرك قوات مختلف الأطراف، وسقوط المدن الأساسية في محافظة إدلب؛ بل ووصول قوات النظام ورعاته إلى مشارف إدلب، هو أن الجانب التنفيذي التفصيلي من مسار أستانا قد شارف على الانتهاء. هذا بغض النظر عن التهديدات والتطمينات والتصريحات الإعلامية التي تصدر عن هذه الجهة أو تلك، فالكثير مما يقال هو بقصد تسويغ المواقف والاستهلاك المحلي.
فما يجري في المنطقة المعنية إنما هو سباق محموم بين مختلف الأطراف الدولية المنخرطة في الملف السوري بغية تثبيت مناطق النفوذ ونقاط الاستناد والمراقبة، وذلك انتظاراً للتوافقات الدولية النهائية التي لن تكون من دون إرادة أمريكية؛ بل وبكلام آخر وأدق، ستكون للولايات المتحدة الكلمة الفصل في التوافق النهائي على الملف السوري إذا ما تم التوافق في يوم ما.
أما مرتكزات هذا الرأي فهي عديدة منها: أن الحطام السوري المتمثل في العمران المدمّر، والنسيج المجتمعي المتهتك، لا يمكن تمكينه من النهوض ثانية من دون جهود وامكانيات مادية استثنائية. وهذه الإمكانيات لا تمتلكها روسيا أو إيران، وحتى تركيا. فإعادة بناء العمران يتطلب أموالاً فلكية، وترميم النسيج المجتمعي في حاجة ماسة إلى ضمانات أكيدة تُقنع السوريين على اختلاف انتماءاتهم، خاصة العلويين والسنّة منهم، بإمكانية التعايش المشترك مستقبلاً، هذا ما لم يكن قد اتخذ قرار بتقسيم سوريا.
ومثل هذه الإمكانيات والضمانات لا يمكن الحصول عليها عبر الروس والإيرانيين، بل هناك حاجة ماسة لتدخل أمريكي، وهذا مؤداه تدخل أوروبي وعربي لإقناع الناس بإمكانية العيش المشترك، بعد اعتماد الحد الضروري المطلوب من الإجراءات التي تقنع الناس بأن هناك إرادة جدية لمساعدة السوريين على استعادة بلدهم، والثقة بالمستقبل.
فالأموال الأوروبية أو العربية، الخليجية تحديداً، لن تدخل سوريا بقصد إعادة البناء من دون إرادة أمريكية، وضوء أخضر واضح من جانب الأمريكان. كما أن إقناع الروس بضرورة التخلي عن بشار الأسد، الذي يظل المسؤول مع الزمرة القريبة منه عن كل المأساة السورية، لن يكون من دون تدخل أمريكي، وتوافق أمريكي روسي، وذلك في إطار حزمة تفاهمات على ملفات كثيرة في أماكن عدة.
أما المرتكز الآخر الذي يقوم عليه قولنا بمحورية الدور الأمريكي في سوريا فهو يتمثل في الالتزام بأمن إسرائيل، وهذه مسألة معلنة باستمرار، ولا يمكن لأحد أن يشكك فيها. وسوريا دولة أساسية مفصلية بالنسبة إلى إسرائيل؛ ولا يمكن لأي تغيير أن يتم فيها من دون الموافقة الإسرائيلية. هذه أيضاً مسألة واضحة يعرفها الجميع. ويبدو أن الروس قد تمكنوا من أداء دور الوسيط بين النظام وإيران من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. وبالتوافق مع الأمريكان بطبيعة الحال؛ وذلك لإدارة الأمور في سوريا بصيغة لا تشكل أي تهديد لأمن إسرائيل.
أما المرتكز الثالث الذي يؤكد أهمية الدور الأمريكي في الملف السوري، فهو يتجسد في واقع وآفاق المواجهة المعلنة بين الجانبين الأمريكي والإيراني؛ خاصة في أجواء الاضطرابات التي يشهدها كل من العراق ولبنان، وانعكاسات ذلك على الملف السوري. فالولايات المتحدة لن تتخلى عن الملف العراقي، كما أن الوضع اللبناني سيظل خاضعاً للمتابعة الأمريكية الدقيقة، وذلك لاعتبارات عدة لها علاقة مباشرة بضبط معادلات التوازن في المنطقة؛ وهي المعادلات التي تقوم على فكرة محورية هي منع تفرّد قوة معينة بالهيمنة والقدرة على التأثير النوعي؛ هذا بالإضافة إلى مقتضيات الأمن الإسرائيلي التي تظل هي الأخرى جزءاً أساسياً من معادلات وأدوات ضبط المنطقة.
ولكن في انتظار التوافق الدولي الذي لن يكون، كما أسلفنا، من دون موقف حاسم أمريكي، يعيش السوريون أوضاعاً كارثية على مختلف المستويات، وفي جميع الميادين. ففي منطقة إدلب ما زال المدنيون يتعرضون للقصف والقتل والتدمير والتشريد، وهم يضطرون للتعايش مع الطبيعة في ظروف شتوية قاسية، كما أن عدم وجود دعم إغاثي كاف من جانب المنظمات الإنسانية المعنية بمثل هذه الحالات، تزيد الأوضاع صعوبة وقتامة.
وفي المناطق السورية الأخرى، تتفاقم المشكلات والأزمات التي ترهق كاهل الناس من كل حدب وصوب، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع معدلات البطالة، والانخفاض الكبير في قيمة الليرة السورية الشرائية، الأمر الذي دفع بغالبية السوريين نحو ما هو دون مستوى خط الفقر؛ وكل ذلك يؤثر سلباً في الواقع التعليمي والصحي المنهكين أصلاً، ويؤدي إلى تراكم المشكلات الاجتماعية وتفاقمها.
أما المصيبة الكبرى التي ترهق السوريين جميعا خارج التقسيم المعروف، معارضة وموالاة، أكثر من غيرها، فهي تتمثل في انعدام الثقة بالنظام والمعارضة الرسمية في الوقت ذاته، وعدم التعويل مطلقاً على أي عمل إيجابي من شأنهما القيام به من أجل التخفيف عن الناس في محنتهم الكبرى. لذلك تتوجه الأنظار جميعها نحو التوافقات الدولية المنتظرة التي لن ترى النور على الأغلب في غضون هذا العام على أقل تقدير، وذلك نتيجة انشغال الأمريكان بانتخابات الرئاسة التي من المتوقع أن تعاني من حالة استقطاب حادة على المستوى الأمريكي، خاصة بعد الانقسام الحزبي الواضح في مجلس الشيوخ حول موضوع تبرئة الرئيس الأمريكي ترامب من التهم الموجهة إليه في سياق عملية محاولة عزله من جانب الديمقراطيين. فالقرارات الحاسمة في الملفات الملحة، ومن بينها الملف السوري والعراقي واللبناني، ستكون مؤجلة، ريثما ينقشع غبار معركة الرئاسة، وتتشكل الإدارة الجديدة.
وما يستنتج من المعطيات والمؤشرات حتى الآن، هو أن العلاقة بين الملفات الثلاثة المشار إليها وموضوع المواجهة مع إيران باتت وثيقة، وهذا فحواه أن الانفراج في الملف السوري لن يكون قبل حسم موضوع طبيعة وحدود الدور الإيراني في المنطقة، وهذا فحواه المزيد من المعاناة بالنسبة إلى السوريين.
عبدالباسط سيدا
القدس العربي