ليس لبنان وحده في حالة ضياع، المنطقة كلها تعاني عوارض الانتقال الصعب من حالةٍ إلى حالةٍ، وفي كل ناحية منها عوامل تتشابه وأخرى مشتركة، أبرزها التدخلات الإيرانية والتركية والإسرائيلية، والحضور الروسي والعباءة الفضفاضة للولايات المتحدة الأميركية، التي تنتظر محطة حاسمة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
والضياع اللبناني يستمد أسبابه من كل هذه العوامل، تصطدم تركيا بالنظام السوري في إدلب، رغم إراحته من آلاف المقاتلين الذين سحبتهم من مواجهته إلى جبهات ليبيا، فتتهم روسيا بالتخلي عن اتفاقات أستانا، وتنتظر تعويضاً لا يصل، بل يصل مزيدٌ من التوتر على جبهة واسعة تهدد تركيا بآلاف اللاجئين السوريين الجدد.
ولا تبدو روسيا مرتاحة لشريكها التركي، إنه يفتح الصراع على حسابه في ليبيا، وينظم الحرب ضد حليفها خليفة حفتر، وكلما أوغل في انتقاده موسكو عبّرت واشنطن عن تعاطفها معه، وهي أصلاً أحسنت إليه بسحب قواتها من شمال شرقي روسيا، تاركة الطريق مفتوحة أمامه ضد الأكراد قبل أن تتولى روسيا محاولة ضبطه وضبط الأكراد في سياق أقرب إلى رؤية نظام الأسد.
الفوضى تدب في سوريا الشمالية، ومنطقة خفض التصعيد في إدلب تعيش تصعيداً دائماً بين النظام وروسيا من جهة، وتركيا من جهة ثانية، على عكس منطقة خفض التصعيد الجنوبية، حيث تخوض إسرائيل حرباً لا تتوقف من جهة واحدة ضد الحضور الإيراني في دمشق ومحيطها ومواقع أخرى.
لا تبدو الحلول السياسية قريبة بسوريا، وفي العراق يستميت الإيرانيون لحفظ نفوذهم وسط احتجاجات شعبية استهدفتهم مباشرة، ولم تنجح الترتيبات التي أُعدّت على عجل في قم، بمساهمة مباشرة من حزب الله (لبنان)، في قمع الشارع العراقي وإنهاء انتفاضته، وإن كانت نجحت كما يبدو في تمرير اسم مرشح لتشكيل الحكومة من دون أن ينجح في مهمته حتى الآن.
يتحدّث كثيرون عن تشابه في أوضاع لبنان والعراق، لجهة الدور الإيراني البارز وإمساك التنظيمات التابعة بمفاصل أساسية في البلدين، والصحيح أن التأثير الإيراني لا يتعدى بناء وقيادة ميليشيات طائفية مسلّحة يقتصر إسهامها، في الظروف الراهنة، على تأجيج الخلافات الداخلية، وتوجيه التهديدات إلى أميركا والدول العربية، والتلويح الدائم بتحرير فلسطين.
أمَّا تحدي بناء الدولة فليس من الأولويات، وهذه هي القضية الأساسية في بلدان مثل العراق وسوريا ولبنان، حيث تتعدد الطوائف والقوميات، وتحتاج المجتمعات إلى صيغ مرنة في الحكم وتوطيد مؤسسات الديمقراطية والقانون.
ويندرج في السياق التحدي الاقتصادي الاجتماعي، فالتنظيمات المذكورة تعيش على مخصصات إيرانية، عاد أمين عام حزب الله حسن نصر الله وذكّر بها في خطابه الأخير، وعلى حصة من اقتصادات الدول المعنية تقوم على التهريب والتبييض والتهرب الضريبي.
وفي الظروف التي نعيشها باتت كل الموارد صعبة وشحيحة، وكشف تقرير لمجلة “فورن بوليسي” أن العقوبات الأميركية جعلت إيران غير قادرة على الاستمرار في حماية “الفاسدين من السياسيين والميليشيات التابعين لها” بالعراق ولبنان.
ويشدد التقرير، الذي أعدّه دنيس روس، الدبلوماسي الأميركي السابق، ودانا سترول من معهد واشنطن، على ضرورة أن تتدخل أميركا بشكل أكبر، وتركّز على “ما يمكن أن تقدمه واشنطن للمنطقة”، وجعلها “علامة فارقة” لأميركا في مواجهة إيران التي أصبحت مفلسة معنوياً ومالياً.
التقرير دعا الإدارة الأميركية إلى حشد الدعم اللازم من الجمهوريين والديمقراطيين لإجراء تحوّل أساسي في سياستها من أجل استقرار الشرق الأوسط، وشدد على عقد شراكات استراتيجية مع اللبنانيين والعراقيين من خلال “إطار تشريعي” بتحديث الاتفاقيات مع البلدين، وتعميق الشراكة إلى أكثر من تركيز واشنطن على دعم الجيش اللبناني فقط.
النقطة الأبرز في توصيات التقرير هي ضرورة ربط كل ذلك بجداول زمنية واضحة مع الانتخابات الرئاسية الأميركية، بهدف إرسال إشارة مهمة إلى المنطقة بعيداً عن تقلبات الإدارة في السنوات الأخيرة.
يبدو أن كثيراً من الاحتمالات رهن نتيجة تلك الانتخابات، ولا شكّ أن إيران تأمل خروج دونالد ترمب من الرئاسة، بينما هو يسعى لتحقيق فوز كبير يسمح له بمواصلة ما بدأه من حصار سياسة النظام الإيراني.
وحتى ذلك الوقت ستواصل إيران إزعاج الأميركيين في العراق، وسيسعى نصر الله وراء مشروعه في قيام “مقاومة شاملة على امتداد عالمنا العربي والإسلامي لمواجهة أميركا”، إلا أنه مشروع محفوف بالصعوبات، وأولاها أن إنقاذ لبنان يحتاج إلى دعم العالم لا إلى جبهة ضد الآخرين، ونصر الله الذي دعا اللبنانيين إلى الفصل بين السياسة والاقتصاد لدى العمل لحل مشكلة لبنان غرق في السياسة، متبنياً الرؤية الإيرانية التي لم تفعل سوى تعميم الأزمات من بيروت إلى بغداد.
طوني فرنسيس
اندبندت عربي