لا أحد في العراق يستطيع أن يعطي توصيفاً دقيقاً، أو تعريفاً جامعاً مانعاً، للحكومة العراقية التي يمكن لها أن تحظى بثقة مجلس النواب في الأسبوع القادم. فوفقاً لكتاب التكليف الذي أصدره رئيس الجمهورية العراقي، فنحن أمام حكومة عراقية «طبيعية» و «كاملة الولاية» تم تكليفها بموجب (المادة 76) من الدستور العراقي، وهو توصيف يختلف تماماً عن توصيف رئيس مجلس الوزراء المكلف نفسه، الذي تعهد، في أول تصريح له بعيد التكليف، بتشكيل «حكومة بعيداً عن المحاصصة الطائفية والحزبية والفئوية الضيقة»، كما تعهد «بالعمل الحثيث من أجل التهيئة لانتخابات مبكرة»، وهو ما يعني عملياً أنه يتحدث عن حكومة مؤقتة انتقالية لا علاقة لها ببيان التكليف! ومع هذا بدا البرنامج الحكومي الطموح الذي أعلنه متناقضاً تماماً مع هذا التوصيف!
في المقابل بدا توصيف القوى السياسية التي رشحت السيد محمد توفيق علاوي لهذا المنصب، وهما تحالفا «سائرون» و«الفتح»، متاهة حقيقية. فالسيد مقتدى الصدر يخبرنا في تغريدة له، في اليوم نفسه الذي صدر فيه كتاب التكليف، بأن تاريخ العراق سيسجل «بأن الشعب العراقي هو من اختار رئيساً لوزرائه وليس الكتل»، وأن الكابينة الحكومية ستكون «نابعة من الشعب وإلى الشعب»! في حين اعترفت كتلة «الفتح»، في بيان رسمي لها في اليوم نفسه بأن القوى المنضوية في هذا التحالف قد «اتفقت» على ترشيح محمد توفيق علاوي لمنصب رئيس مجلس الوزراء»!
قلنا في مقالة الأسبوع الماضي أن الحديث عن حكومة مؤقتة ـ انتقالية – تكنوقراط في العراق هو حديث خرافة، وأن ترشيح تحالفي «سائرون» و«الفتح» لرئيس مجلس الوزراء، ينفي عن هذه الحكومة صفة «الاستقلالية» تماماً، وأنه إذا استطاع رئيس الحكومة تشكيلها وفقاً لرؤيته، أي «وزارة موظفين»، فهذا يعني عملياً أننا سنكون أمام حكومة تنفذ برنامج هذين التحالفين حصراً، وأن أي حديث غير ذلك هو مجرد عبث.
الخيار الواقعي للكثير من المجتمعات التعددية في العالم غير الغربي ليس خياراً بين النموذج المعياري البريطاني للديمقراطية والنموذج التوافقي، بل بين النموذج التوافقي للديمقراطية وبين انعدام الديمقراطية تماماً، وحكومة علاوي القادمة ستكون الخطوة الحاسمة في اتجاه انعدام الديمقراطية هذا
والسؤال الجوهري هنا، هل يمكن فعلاً تشكيل هكذا حكومة، فضلاً عن افتراض نجاحها، من دون أن تحظى بقبول الكتل السياسية ذات البنية والطبيعة الهوياتية الممثلة في مجلس النواب؟ فإذا ما قبلنا حقيقة أن ممثلي المكون السنّي في العراق لم يعد لهم أي دور، أو تأثير، في صناعة القرار السياسي في العراق، مع انحسار السياسة السنّية منذ العام 2014، والذي تكرس عملياً مع نتائج انتخابات 2018، وبالتالي لن يلتفت أحد بشكل جدي إلى أي موقف، انتهازي أو استعراضي أو ابتزازي، تعلنه الكتل السنّية حول موقفها من وزارة السيد علاوي، فإن الأمر مختلف تماماً في الحالة الكردية، فليست هناك أية إمكانية حقيقية لتشكيل وزارة لا تحظى بقبول الحزبين الكرديين الرئيسين: الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، وبالتالي ليس أمام السيد علاوي من خيار إلا بقبول الشروط الكردية، وأغلب الظن أن علاوي سيذهب إلى مجلس النواب للحصول على الثقة، من دون تسمية الوزراء الكرد، ليتمكن لاحقاً من تنفيذ الشروط الكردية من دون أن يخشى ضغوط القوى السياسية الأخرى بعد حصوله على الثقة!
في حزيران/ يونيو من العام 2009، أعلن رئيس مجلس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، تحفظاته على مقولة «الديمقراطية التوافقية»، بنسختها العراقية التي حولتها إلى مجرد منطق صفقات، وليس إلى نظام سياسي حاكم ومتفق عليه، وأعلن حينها تأييده لحق «الأكثرية» في تشكيل الحكومة. وبعد ذلك تكرر الحديث عن حكومة الأكثرية – الغالبية، في برنامج «ائتلاف دولة القانون» الانتخابي لعام 2010، الذي تحدث بشكل واضح عن ضرورة تبني مبدأ «أن يتولى رئيس وزراء العراق المقبل مسؤولية تشكيل حكومته بما يضمن انسجام أعضائها على أساس المهنية و الكفاءة بعيداً عن المحاصصة». والمفارقة هنا أن هذا الحديث عن حكومة «الغالبية السياسية» بدا أكثر صراحة في البرنامج الانتخابي للائتلاف الوطني العراقي، الذي ضم حينها التيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى، الذي نصّ على أن «الديمقراطية الحقة هي ديمقراطية الغالبية السياسية» وليس الديمقراطية التوافقية «التي أنتجت المحاصصة»! وهو ما يعني عملياً أن القوى الشيعية الرئيسية التي فشلت في تحقيق حكومة «غالبية سياسية» طوال السنوات الماضية، قد نجحت، وعبر استثمار حركة الاحتجاج هذه المرة، وتحت غطاء قنابل الدخان، في تمرير حكومة أكثرية – غالبية سياسية، بعد تحييد التمثيل السنّي، والذي سيفتقد هذه المرة حتى «السمسرة» التي أجادها منذ العام 2014 حتى اللحظة. وإذا كان الكرد ما زالوا قادرين على الوقف بوجه هذا الاحتكار الصريح للسلطة وللدولة معاً، فان هذه الوقفة لن تتجاوز حدود الإقليم ومصالحه بكل تأكيد.
ينهي آرنست ليبهارت كتابه «الديمقراطية التوافقية» بالقول إن الخيار الواقعي بالنسبة إلى الكثير من المجتمعات التعددية في العالم غير الغربي ليس خياراً بين النموذج المعياري البريطاني للديمقراطية (الغالبية السياسية) والنموذج التوافقي، بل بين النموذج التوافقي للديمقراطية وبين انعدام الديمقراطية تماما، وواضح أن حكومة السيد علاوي القادمة ستكون الخطوة الحاسمة في اتجاه انعدام الديمقراطية هذا.
يحيى الكبيسي
القدس العربي