مشهد سوريالي أقرب إلى الدراما! لبنان ينزلق، منذ أشهر، نحو الهاوية، بفعل طبقة سياسية سلوكها أقرب إلى تصرف العصابة التي تريد أن تسرق الخزنة، قبل أن ينهار الهيكل تحت ضربات الشارع المنتفض. ما يهمها فقط هو الخزنة، على الرغم من النهب المستمر والمنظم منذ عشرات السنين. أما القرار السياسي فقد تخلت عنه بالتكافل والتضامن للراعي والوصي الاقليمي إيران، التي أوكلت إلى ذراعها العسكرية، حزب الله، إدارة الشأن الداخلي لإمارة لبنان. ويصادف أن الجمهورية الخمينية تعيش، منذ نحو سنتين، ضغوطا قوية ومتشعبة، وعقوبات اقتصادية أميركية خانقة، تتوجت، قبل أكثر من شهر ونصف الشهر، بضربة قاسية تلقتها طهران باغتيال أميركا رجلها (طهران) الأول في المنطقة والقائد الميداني، قاسم سليماني، الذي كان يمسك بخيوط اللعبة في العواصم الأربع التي يعتبرها الملالي تحت سيطرتهم، من العراق إلى سورية إلى لبنان ثم اليمن. في خضم هذه التطورات الضاغطة، يصل فجأة إلى بيروت رئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني، على رأس وفد رفيع ليهنئ الحكومة الجديدة، ويعرض تقديم الدعم في أكثر من مجال. يأتي لاريجاني إلى بيروت للتهنئة، على الرغم من أن برقية واحدة لم تصل إلى رئيس حكومتها منذ تشكلت قبل شهر، لا من أي دولة عربية، ولا من أي دولة أوروبية، وتحديدا الدول الصديقة التي يعوّل لبنان على مساعدتها لانتشاله من أزمته الاقتصادية والمالية والنقدية الخانقة.
أي لبناني اليوم يملك حساب توفير متواضعا، أو من أصحاب الودائع الكبرى، لا يمكنه أن يسحب من أمواله أو مدّخراته أكثر من مائتي دولار في الأسبوع. وحتى الآن، لم تقم الحكومة، ولا
“تمكّن حزب الله منذ ثلاث سنوات من إحكام سيطرته على القرار السياسي عبر تطويع كل أطراف السلطة”القوى السياسية التي ترعاها، بأي خطوة جدّية لمعالجة الوضع، وسط هلع الناس من أن تكون أموالهم قد تبخرت أو تبخر قسم كبير منها، خصوصا أن الدولار يتابع صعودا، وبلغ نسبة 66،6% مقارنة بسعر الليرة اللبنانية (الدولار 2500 ل.ل). ولأن على لبنان استحقاق سندات دين بال “يوروبوند” بقيمة مليار ومائتي يورو عليه تسديده قبل 9 مارس/ آذار المقبل، فيما يدور جدال حول ما إذا كان عليه أن يسدّد أو أن يمتنع. الدول نفسها التي تحاصر إيران وتفرض أو تلتزم بالعقوبات هي عمليا الدول نفسها التي تمتنع عن مساعدة لبنان، لأنها تعتبر أن الفساد المالي والإداري بلغ حدا لم يعد ممكنا معه أي علاج من دون إجراءات إصلاحية جذرية، لطالما التزم لبنان بتنفيذها في مقابل برامج الدعم والمساعدات التي قدمتها أوروبا وأميركا منذ التسعينيات، وجديدها مشروع “سيدر” الذي عقد في باريس قبل نحو عامين، وخصص 12 مليار يورو للبنان، ولكنه جمد لأن لبنان لم يف بتعهداته. ولكن السبب الأهم الذي يضع لبنان في عين العاصفة سياسي، إذ هذه الدول، وبالتحديد الولايات المتحدة وبعض أوروبا والدول العربية الخليجية، وفي مقدمها السعودية، غير مستعدة للمساهمة في أي عملية إنقاذ، لأنها لا تريد أن تدعم حكومة قرارها مرتهن لحزب الله. وهذا موقف بات معروفا تمارسه الإدارة الأميركية من خلال تشديدها العقوبات على حزب الله، وفرض قيود مشدّدة على المصارف في منع أي عمليات مالية لعناصر أو لرجال أعمال لهم علاقة بالحزب، وهي إجراءاتٌ تطاول، في النهاية، عموم اللبنانيين (تم إغلاق مصرفيْن بتهمة تسهيل عمليات مالية للحزب، وشحّ الدولار في الأسواق اللبنانية)، فيما السعودية منسحبة تماما من الساحة اللبنانية، منكفئة سياسيا ومحجمة تمويليا حتى عن حليفها التقليدي، سعد الحريري، بعد أن أصبح القرار في يد فريق “الممانعة”، حتى في ظل الحكومات التي ترأسها الحريري الذي امتنع حتى عن إشهار موقفه المعارض سلاح حزب الله، الخارج عن شرعية الدولة، ففي ظل هذا الحصار الذي يشتد على إيران، ويشلّ من قدرتها على إدارة تمدّدها الإقليمي، بدءا من العراق، حيث تواجه انتفاضةً شعبيةً منذ نحو خمسة أشهر ضد السلطة السياسية التي تدين بالولاء لطهران، وتشهر معارضتها وصاية الملالي على بلاد الرافدين. وقد أسقط الشارع حكومة عادل عبد المهدي، وهو يرفض الآن تكليف محمد توفيق علاوي، ويفضح القوى السياسية المليشياوية تجاه تبعيتهم لطهران، ويضعها أمام مأزق حقيقي تجاه علاقاتها مع المكونات السياسية الأخرى، الكردية والسنية، التي يحاول علاوي تهميشها. وفي سورية، باتت طهران على هامش لعبة الدومينو الكبرى التي تُخاض على امتداد رقعة الشمال السوري بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة، ومليشياتها تقوم بدور الملحق هنا وهناك، بعد أن كان لها دور هام في حماية النظام السوري، قبل التدخل العسكري الروسي الذي كان له الدور الحاسم في منع سقوط الأسد. وهناك توافق روسي – أميركي غير معلن بإنهاء الدور العسكري الإيراني في سورية، والذي أوكل عمليا إلى إسرائيل التي تقوم من خلاله بدور الشرطي المانع لتمركز الوحدات الإيرانية، وتمدد مليشياتها في سورية، عبر الغارات الجوية التي تشنها بشكل دوري عليها. ناهيك عن الانتفاضة التي تجتاح مدن إيران وشوارعها، احتجاجا على سياستها التجويعية في الداخل والتوسعية في الخارج (إحراق صور سليماني!).
أما في لبنان، فقد تمكّن حزب الله منذ ثلاث سنوات من إحكام سيطرته على القرار السياسي عبر
“باتت طهران على هامش لعبة الدومينو الكبرى التي تُخاض على امتداد رقعة الشمال السوري بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة”تطويع كل أطراف السلطة وجمعها داخل حكومة واحدة، قائمة على التسوية – الصفقة التي حملت حليفها ميشال عون إلى الرئاسة، وعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، والتحق بالصفقة سمير جعجع ووليد جنبلاط. وقبل أربعة أشهر، انفرط عقد الصفقة على وقع الانتفاضة الشعبية، وبات كل أطراف السلطة شركاء في الفساد، وعليهم جميعا أن يرحلوا (شعار الثورة “كلن – يعني -كلن”). وباستقالة حكومة الحريري “ذاب الثلج وبان المرج”، طفت كل الفضائح والصفقات، وكل أنواع الموبقات على السطح. ولم تعد المسألة تقتصر على إعادة تشكيل الحكومة، أو العمل على ابتداع اتفاق جديد بين أطراف السلطة، على الرغم من إصرار هذه الأطراف على التمسك بالسطة ونفوذها، فقد عمدت تحت ضغط الانتفاضة التي طالبت بحكومةٍ من اختصاصيين ومستقلين إلى تشكيل مثل هذه الحكومة في الظاهر، وإنما صحصح أن معظمها غير حزبيين، إلا أنهم يعملون مستشارين لدى الأحزاب، أو تربطهم بهذه الأحزاب علاقات خاصة. هنا حزب الله ضغط بكل ثقله، لكي تتشكل حكومةٌ كهذه، لأنه يريد أن يبقى ممسكا باللعبة، ويريد أن يتحاشى أي فراغ في السلطة، خصوصا أمام ضغط الشارع الذي لم يتمكّن من احتوائه أو تطويعه. ولكنه اضطر أن يقبل بحكومةٍ مكشوفة، يسيطر عليها الفريق “الممانع” بعد انكفاء الحريري وجنبلاط وجعجع. وعلى الرغم من ذلك “جرت الرياح بما لا تشتهي السفن”، ففاجأه الرئيس الأميركي، ترامب، باغتيال سليماني، فانفضت التوليفة من حول نصرالله، وبات على لبنان أن يقلع شوكه بأيديه، ويحاول أن يبتعد قدر الإمكان عن وصاية إيران، وعن مغامرات نصرالله الذي أعلن من لبنان الحرب على القوات الأميركية في المنطقة، ومتوعدا أن الجنود “أتوا عموديا وسيرحلوا أفقيا”، أي في النعوش! ثم يدعو في خطابه أخيرا إلى مقاطعة البضائع الأميركية… فيما المصالح والمحال التجارية تشهد أزمة غير مسبوقة، تجسدت بإقفال 760 محلا خلال خمسة أشهر، منها 240 في الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني). وتحولت دعوة المقاطعة طبعا إلى مزحة ومحط استهجان. وكانت ردة الفعل الفورية ليبدأ مناصرو حزب الله وجمهوره بالتخلي عن السيارات الأميركية رباعية الدفع، وعن هواتف “آيفون”، وعن استعمال الإنترنت و”فيسبوك” و”تويتر”! وفي خضم هذا الجو الملتهب، يحل على بيروت فجأة لاريجاني، الذي لم يتم أي إعلان رسمي عن زيارته، كما أن نصرالله قام بزيارة خاطفة لطهران، ليؤكد على تبعية لبنان للمحور الإيراني، وليعلن أن “حزب الله هو رأسمال لبنان” وكأن شيئا لم يكن! إنه فعلا مشهد سوريالي أقرب إلى المضحك المبكي، ويعكس كمية التحجّر في العقل الديني الأيديولوجي وتعطشه إلى التوسع والتمسّك بالسلطة.
سعد كيوان
العربي الجديد