في لعبة الأمم الكبرى على الساحة السورية، سعى الأكراد إلى تحقيق جزء من أهدافهم بالتحالف بدءا مع الولايات المتحدة، لكن التحول المتواصل لاستراتيجياتها قربهم من موسكو رغم إدراكهم أن هذه الأخيرة لا تعتبرهم رقما هاما في معادلاتها. هذا التحول والتغير في التحالفات جعلا الأكراد يقيسون مواقفهم وفق خارطة المصالح المرتبطة بغريزة البقاء في مسعى منهم لتجنب الخطر التركي الداهم دائما.
موسكو – تسهل على المراقبين ملاحظة مدى أهمية العامل الكردي في سوريا لدى كل من الولايات المتحدة وروسيا، لأسباب مختلفة بالنسبة إلى البلدين. غير أنه بسبب التوتر الراهن بين موسكو وأنقرة في سوريا، طورت روسيا علاقاتها مع الأكراد الذين باتوا جزءا من الجهد العسكري بالتعاون مع قوات النظام السوري لصد تقدم تركيا وحلفائها من الفصائل المعارضة في شمال سوريا.
ورغم العداء الذي يكنه أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي لتركيا، بصفتهم واجهة سورية لحزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان، وفق اتهامات أنقرة، فإنهم حريصون على عدم إغضاب الولايات المتحدة التي تطورت مواقفها مؤخرا باتجاه دعم الموقف التركي في سوريا وإدانة السلوك الروسي في هذا البلد.
خارطة المصالح
بيد أن الأكراد يقيسون مواقفهم بدقة وفق خارطة المصالح المرتبطة بغريزة البقاء. وقد تحالفوا مع الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم داعش ودفعوا دماء غزيرة في أتون تلك الحرب، ويقيمون داخل المناطق التي يسيطرون عليها مخيمات اعتقال تضم مقاتلي داعش.
غير أن الأكراد أدركوا أن هذا التحالف ليس استراتيجيا بالنسبة إلى واشنطن، وأن القرار الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية من سوريا بعد مكالمة هاتفية أجراها مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان في ديسمبر 2018، يتركهم لمصيرهم دون أي حماية تدافع عن كيانهم وطموحاتهم السياسية.
وتجاوب الأكراد مع دعوات موسكو لفتح حوار بينهم وبين دمشق، إلا أنهم بقوا متمسكين بشعار “أن ما قبل عام 2011 (عام اندلاع الثورة في سوريا) غير ما بعده”، وأنهم لن يعودوا، كما في السابق إلى حضن النظام المركزي في دمشق.
وتقول تقارير إن الأكراد عبروا في السابق عن قلق من إمكانية أن تسمح روسيا، في محاولة لإبقاء تركيا إلى جانبها في سوريا، لأنقرة بالسيطرة على مدينة كوباني الكردية على الحدود التركية مقابل تنازلات تركية في إدلب. غير أن التطورات الأخيرة رفعت مستوى الارتياح لدى الأكراد الذين باتوا يشعرون بأنه بالإمكان التعويل على علاقاتهم مع موسكو لتحقيق أهدافهم في الأمن كما في السياسة.
ويتلخص الموقف الكردي في المزاوجة بين تعليقهم أهمية على شراكتهم مع الولايات المتحدة في الميدان، لاسيما في شرق الفرات، وتأكيدهم على اعتبار الوجود العسكري التركي تهديدا استراتيجيا لأمنهم. بالمقابل فإن أكراد سوريا وأذرعهم العسكرية -قوات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)- والذين باتوا يعتبرون روسيا الضامن لأي مفاوضات مع دمشق، ما زالوا يشتبهون في أن مصالح روسيا الاستراتيجية قد تقودها إلى استيعابها لتركيا واسترضائها، كما فعلت في عام 2018 عندما وافقت على تولي تركيا السيطرة على عفرين.
مع ذلك، فقد تغير ترتيب الأولويات في النهج الكردي منذ عملية ربيع السلام التركية في شمال شرق سوريا في أكتوبر عام 2019. واكتسبت فكرة أن تكون دمشق عنوان التسوية حول القضية الكردية ثقلًا كخيار استراتيجي عام أمام القيادة الكردية للإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها.
وفي أواخر شهر ديسمبر عقد الروس اجتماعا مع ممثلي الأكراد في قاعدة حميميم الجوية الروسية، ورتبوا بعد ذلك لقاء بين وفد كردي وممثلي الحكومة السورية في دمشق. وأدت المحادثات التي قادها عن الجانب السوري رجل المخابرات الأول، رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك، إلى اتفاق على تشكيل لجان مشتركة لمواصلة المحادثات ورسم خارطة طريق لمستقبل علاقات الطرفين.
وتتحدث تقارير كردية عن اجتماع عقد قبل ذلك في 15 يوليو 2018 بين وفد من مجلس سوريا الديمقراطية مع مسؤولين سوريين في دمشق لكنه لم يسفر عن شيء، وتلته سلسلة اجتماعات أخرى عقيمة، وعزا مجلس سوريا الديمقراطية فشل تلك الاجتماعات إلى إصرار النظام على العودة إلى أوضاع ما قبل 2011.
وتتحدث التقارير أيضا عن أنه في 19 يناير 2019، زار القائد العام لوحدات حماية الشعب، سيبان حمو، قاعدة حميميم وموسكو، وقدم للروس مذكرة تضمّ عدة نقاط، وطلب منهم الإشراف على الحوار بين دمشق والقامشلي، وأكدت المذكرة على هذه النقاط:
وحدة الأراضي السورية.
أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية، وتكون الإدارة الذاتية جزءاً منها.
أن يكون للإدارة الذاتية ممثلون عنها في برلمان ودمشق.
اعتماد عَلم الإدارة الذاتية إلى جانب العلم السوري.
أن تكون لمناطق الإدارة الذاتية دبلوماسيتها الخاصة بما لا يتعارض مع مصالح الشعب السوري والدستور.
قوات سوريا الديمقراطية جزء من الجيش السوري وتتولى المسؤولية عن حماية حدودها.
اللغة العربية لغة رسمية في جميع سوريا، على أن تكون الدراسة باللغات المحلية في مناطق الإدارة الذاتية.
توزع ثروات سوريا بصورة عادلة على جميع مناطق البلد.
غير أن توتر العلاقات الروسية التركية حول إدلب أدى إلى بعض التغييرات غير المعلنة في الخيارات التكتيكية الكردية.
وكشفت تقارير أن الأكراد باتوا يتعاونون مع الجيش السوري التابع لدمشق في أجزاء معينة من العمليات في شمال غرب حلب، وبالتحديد في مناطق على طول حدود عفرين. وإذا توسعت المعارك لتشمل عفرين فإن المشاركة العسكرية الكردية ستصبح واضحة ومباشرة.
تطوير العلاقات
يسعى الأكراد برعاية روسيا إلى تطوير علاقاتهم مع دمشق على أمل أن يقوي هذا الأمر أوراقهم في السعي لدى دمشق للاعتراف بالإدارة الذاتية. وتقول معلومات إن نظام دمشق ما زال متمسكا بحل هذه المسألة على أساس قانون الإدارة المحلية رقم 107.
وهذا القانون يعنى بإدارة المناطق المختلفة، ويضع القرارات في يد المركز وتشرف وزارة الإدارة المحلية على تطبيقه، وهي وزارة تتبع حزب البعث بصورة مباشرة.
روسيا طورت علاقاتها مع الأكراد الذين باتوا جزءا من الجهد العسكري بالتعاون مع قوات النظام السوري لصد تقدم تركيا وحلفائها من الفصائل المعارضة
وتنقل مصادر كردية عن رئيس معهد الدراسات الكردية، نواف خليل، أن مفاوضات الأكراد ودمشق يمكن أن تنجح إذا ضمنت روسيا ذلك “ولكن روسيا لم تمارس دور الضامن بعد”.
وحسب خليل، فإنه في حال أشرفت روسيا على المفاوضات فستكون الأوضاع إيجابية: “لم ترق معاهدتا سوتشي وأستانة للنظام، فلم يكن النظام يريد أن تحتل تركيا أعزاز والباب، لكن عندما تدخلت روسيا في الشؤون السورية لم يستطع النظام أن يقول لا”.
بيد أن معلومات نشرتها مواقع مقربة من أكراد سوريا قالت إن الولايات المتحدة أبلغت القيادة الكردية تحذيرا من القيام بالمشاركة في أي عمليات عسكرية تستهدف القوات التركية المتقدمة شمال سوريا. وفي حين تنفي المصادر الرسمية داخل قوات حماية الشعب الكردية وصول أي تحذيرات أميركية واضحة في هذا الصدد، إلا أن بعض المراقبين الأكراد لا يستبعدون أن تعمد واشنطن إلى الضغط على حلفائها الأكراد لعدم الانجرار إلى معركة تقف فيها واشنطن إلى جانب تركيا.
وتتفهم روسيا الموقف الكردي لكنها لن تنظر إلى أكراد سوريا بصفتهم جزءا من المشهد الحليف سواء في تحييد الإرهاب أو في مقاتلة فصائل المعارضة أو حتى في إمكانية أن يشكلوا جبهة إضافية متعاونة مع موسكو ومع دمشق لتقويض الجهود العسكرية التركية وإرباك الحشود العسكرية لأنقرة في الداخل السوري وتقييد حركتها.
العرب