كما كان متوقعا بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي؛ فإن “يمين الأصوليين” استطاع –في الانتخابات التشريعية الأخيرة- السيطرة على الأغلبية المطلقة من مقاعد مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) في إيران. لكن قبل الحديث عن دلالات ذلك؛ ربما تجدر الإشارة إلى سبب استخدام عبارة “يمين الأصوليين”، لأن الأصوليين في إيران يعتبرون هم اليمين المحافظ في البلاد.
نشأة اليمين الأصولي
فبعد انتخاب الرئيس الأسبق محمد خاتمي؛ انقسمت الأحزاب والمجموعات السياسية في إيران إلى اتجاهين: أحدهما (تشكل حينها من 19 حزبا وثلاث مجموعات سياسية كانت عموما يسارية التوجه) كان داعما للرئيس خاتمي، بينما اجتمعت بقية الأحزاب والمجموعات السياسية اليمينية في البلاد تحت لواء الأصوليين، داعمة لأصول النظام وخاصة السيطرة المطلقة لولي الفقيه على جميع أمور البلاد. وأخيرا؛ فقد وصل عدد الأحزاب والتنظيمات في كل اتجاه إلى أكثر من خمسين تنظيما سياسيا.
وفي الواقع؛ فإنه منذ بداية الثورة في إيران كان هناك اتجاهان أحدهما “اليسار الاشتراكي الإسلامي والقوميون الإسلاميون” الذي كان الأقوى في الشارع وسيطر على الحكومة، في حين أن المجموعة الموالية “للبازار” ورجال الدين شكّلت حكومة في الظل كانت تسمى “لجنة الثورة”، وحكمت البلاد لمدة ثلاثة أشهر قبل استقرار أول حكومة فيها.
وكان الإمام الخميني يحاول السيطرة على الخلافات بين المجموعتين عبر مسك العصا من الوسط، وحين وصل المرشد الحالي آية الله خامنئي -الذي كان يمثل اللجنة الثورية لسدة رئاسة الجمهورية إلى جانب الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني والشيخين محمد بهشتي ومرتضى مطهري- تم تعيين مير حسين موسوي الذي كان يمثل الاتجاه اليساري رئيسا للوزراء.
“بداية من أواخر فترة حكم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد وبداية حكم الرئيس الحالي حسن روحاني؛ برزت في الواجهة مجموعات أخرى في البلاد وخاصة بين أعضاء الجيل الجديد للثورة الذين هم “يمين الأصوليين” أو “يسار الإصلاحيين”؛ حيث إن هؤلاء يرفضون كل التوجهات السياسية المعتدلة أو ما يعتبرونه سياسات رمادية. وفي الانتخابات التشريعية الأخيرة لتشكيل مجلس الشورى الإسلامي الحادي العشر؛ استطاع اليمين الأصولي السيطرة المطلقة على كراسي مجلس الشورى”
ولأن كلا من الاتجاهين السياسيين يتشكل من تنظيمات مختلفة؛ فإن رؤى التنظيمات والأحزاب المنضوية تحت لواء كل اتجاه من الاتجاهين كانت متباينة، فنستطيع أن نجد تنظيمات أو شخصيات تنتمي للتيار الإصلاحي ولكنها قريبة أيضا في بعض توجهاتها من التيار الأصولي، وكذلك العكس.
ولهذا؛ فإنه خلال السنوات الأخيرة واجه التياران الأصليان انقسامات في توجهات أعضائهم وتنظيماتهم، حيث إن البعض قاموا بتشكيل مجموعة المعتدلين التي تتشكل من الإصلاحيين والأصوليين من خط الوسط، فصار باستطاعتنا أن نرى ائتلافا بين الرئيس روحاني أو رئيس البرلمان علي لاريجاني أو سلفه علي أكبر ناطق نوري –الذين يعتبرون ممثلين للأصوليين المعتدلين- وأشخاص مثل إسحق جهانغيري نائب رئيس الجمهورية أو رئيس الأكثرية الإصلاحية في البرلمان العاشر محمد رضا عارف، اللذين يعتبران ممثلين للإصلاحيين المعتدلين.
وبداية من أواخر فترة حكم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد وبداية حكم الرئيس الحالي حسن روحاني؛ برزت في الواجهة مجموعات أخرى في البلاد وخاصة بين أعضاء الجيل الجديد للثورة الذين هم “يمين الأصوليين” أو “يسار الإصلاحيين”؛ حيث إن هؤلاء يرفضون كل التوجهات السياسية المعتدلة أو ما يعتبرونه سياسات رمادية.
وفي الانتخابات التشريعية الأخيرة لتشكيل مجلس الشورى الإسلامي الحادي العشر؛ استطاع اليمين الأصولي السيطرة المطلقة على كراسي مجلس الشورى، ومن المرجح أن يرأس اللواء محمد باقر قاليباف -ممثل هذا الاتجاه- المجلسَ المقبل، ومن المرجح أن يصبح سيد مصطفى مير سليم نائبه. ونشير هنا إلى أن قاليباف وسليم كانا منافسين للرئيس حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلى جانب إبراهيم رئيسي الذي أضحى اليوم رئيس السلطة القضائية.
ملفات وتوقعات
يمكن تقييم مستقبل العلاقات الإيرانية الخارجية خلال الفترة المقبلة -بعد استلام البرلمان الإيراني الجديد لمهامه على أساس محاور عديدة؛ يمكن تلخيصها في:
1- المفاوضات بين طهران وواشنطن:
يعتبر الدبلوماسيون الأوروبيون في طهران أن وصول “اليمين الأصولي” إلى السلطة فرصة للحوار بين إيران والغرب، إذ إن هذا اليمين يعبّر عن غاية التشدد في إيران؛ فإذا وصل إلى السلطة وكان بالإمكان إقناعه بمفاوضة الغرب فلن يكون هناك أي معارض لهذا الاتجاه في البلاد. كما أنه يستطيع فرض تنفيذ أي اتفاق يصل إليه مستقبلا، خاصة أن المفاوضات السرية السابقة -التي جرت بين إيران والغرب- تمت في زمن سيطرة الأصوليين على الحكم، وكُشف عنها زمن حضور الإصلاحيين في الحكم.
ولكن بما أن اليمين الأصولي يرى أن السبيل الوحيد للتعامل مع الولايات المتحدة هو بفرض الأمر الواقع عليها وليس عبر المفاوضات؛ فإنه من المنتظر أن نشهد تشنجات مستقبلية في العلاقات بين طهران وواشنطن التي تُحكم هي أيضا حاليا بإدارة من اليمين المتطرف.
ويمكن أن تؤدي هذه التشنجات إلى تصادمات بين الجانبين على غرار الهجوم على قاعدة عين الأسد بالعراق، أو إسقاط الطائرة الأميركية، أو السيطرة على السفينة البريطانية، أو قيام حلفاء إيران بمهاجمة حلفاء الولايات المتحدة على غرار ما حصل في قصف منشآت شركة أرامكو السعودية.
ولكن من المستبعد أن يسعى الجانبان إلى الدخول في حرب شاملة، خاصة أن إيران والولايات المتحدة تسيران الآن باتجاه تنظيم انتخابات رئاسية، والعالم لا يستطيع تحمُّل اندلاع حرب جديدة. وفي النهاية؛ يمكن أن نشهد تدخلات دولية لرسم خطوط حمر جديدة بين الجانبين، كما حصل بعد عام 2003 إثر قيام الولايات المتحدة باحتلال العراق ومن قبله أفغانستان.
“رغم أن الإصلاحيين كانوا رواد تشكيل مجموعات موالية لإيران -مثل حزب الله اللبناني وأحزاب عراقية وأفغانية وأخرى حليفة لطهران- فإن الأصوليين اليوم من أكبر أنصار هذه المجموعات، وبالتأكيد فإن البرلمان الإيراني المقبل سيقوم بتخصيص ميزانيات لدعم مواقف حلفاء إيران في المنطقة أكثر من السابق. بل يمكن توقع أن تحاول إيران التقرب من جميع التنظيمات المعارضة للولايات المتحدة في المنطقة والعالم، لإيجاد جبهة عالمية موحدة ضد أميركا”
2- الخلافات مع الدول العربية الجارة:
رغم أن حكومة الرئيس روحاني حاولت جاهدة -منذ وصلت إلى سدة الحكم- حلَّ خلافات إيران مع دول الجوار (خاصة السعودية والإمارات والبحرين)؛ فإن مواقف الصقور الذين يتحكمون في سياسة بعض دول الجوار –إضافة إلى الضغوط الأميركية على هذه الدول- حالت دون إمكانية التوصل إلى أي صيغة للتعاون وحل الخلافات القائمة بين ضفتيْ الخليج.
ومع وصول اليمين الأصولي إلى مجلس الشورى في إيران؛ فغنه من المستبعد أن تستطيع حكومة الرئيس روحاني السير في المسار السابق، وستضطر الحكومة الإيرانية إلى أن تعود إلى المرشد ليحسم الأمور في كل ما يدخل في ملف العلاقات مع دول الجوار.
3- ملف الاتفاق النووي:
كان اليمين الأصولي -وما زال- من أشد المعارضين للاتفاق النووي، وبعد خروج الولايات المتحدة منه كان ينادي بضرورة وقف تنفيذ إيران لتعهداتها في هذا الاتفاق. ويعتبر أنصار هذا الفريق أنه لا يوجد سبب لبقاء إيران في الاتفاق النووي، ولا في كل الاتفاقيات الدولية التي تقيد أيدي إيران دون أن تفيدها. وعلى هذا الأساس حال هذا الفريق دون تصديق قرار انضمام إيران إلى معاهدة منع غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب المعروفة بالـ”FATF”.
وحتى بالنسبة للبرنامج النووي الإيراني؛ فإن هذا الفريق يرى ضرورة الإسراع إلى العودة إلى البرنامج النووي الإيراني ما قبل الاتفاق النووي، وحتى خروج إيران من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية المعروفة بالـ”NPT”، قائلين إن هذه المعاهدة لا تفيد إيران بل تقيد برنامجها النووي، وإن كل العقوبات الدولية الحالية المفروضة على إيران تستند إلى أن إيران عضو في هذه المعاهدة، بينما تقوم إسرائيل مثلا بتصنيع السلاح النووي ولا أحد يقف أمامها لأنها لم توقع على هذه المعاهدة.
4- النفوذ الإيراني في المنطقة:
رغم أن الإصلاحيين كانوا رواد تشكيل مجموعات موالية لإيران -مثل حزب الله اللبناني وأحزاب عراقية وأفغانية وأخرى حليفة لطهران- فإن الأصوليين اليوم من أكبر أنصار هذه المجموعات، وبالتأكيد فإن البرلمان الإيراني المقبل سيقوم بتخصيص ميزانيات لدعم مواقف حلفاء إيران في المنطقة أكثر من السابق. بل يمكن توقع أن تحاول إيران التقرب من جميع التنظيمات المعارضة للولايات المتحدة في المنطقة والعالم، لإيجاد جبهة عالمية موحدة ضد أميركا.
5- علاقات إيران بالدول الشرقية:
بينما يميل الإصلاحيون والمعتدلون عموما باتجاه توطيد العلاقات مع الغرب؛ فإن اليمين الأصولي يميل باتجاه ترسيخ العلاقات مع الشرق وخاصة روسيا والصين. وعلى هذا الأساس، ونظرا للظروف السياسية الدولية التي تشهدها إيران حاليا؛ فإنه يمكن توقع أن تزداد علاقات إيران مع الشرق في ظل مجلس الشورى المقبل، وكذلك إقرار قوانين تفسح المجال للتعاون السياسي والعسكري والأمني -وبالطبع الاقتصادي- بين إيران والدول الشرقية، لا سيما روسيا والصين.
وعلى هذا الأساس؛ نتوقع أن حكومة الرئيس روحاني ستضطر إلى مسايرة الوضع الموجود حتى انتهاء مأموريتها، كما يمكن أن نشهد تغييرا جذريا في سياسات الحكومة الإيرانية خلال العام المقبل، والتحول من حكومة معتدلة إلى حكومة متشددة في قراراتها، خاصة أن قرارات الدول الغربية لا تصب في مصلحة سياساتها الكلية المائلة إلى الدبلوماسية. وذلك على الأقل حتى تنتهي الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة ويُكشف عن هوية الوجه التالي الذي سيسكن البيت الأبيض.
عماد آبشناس
الجزيرة