في إمعان بنهج نظريات المؤامرة ولعبة تركيب الكلمات، تستدل وسائل الإعلام الروسية على “وجود مؤامرة” لاستهداف “الصين الشقيقة” من قبل الولايات المتحدة باستخدام فيروس “كورونا”. عرضت القناة الروسية الأولى، في نشرة ساعة الذروة، تقريراً أثار سخرية صف واسع من الروس، يشير إلى أن فريقاً واسعاً من الروس مقتنع أن الولايات المتحدة، ورئيسها دونالد ترامب شخصياً يقفان وراء انتشار الوباء القاتل، والسبب واضح لا يحتاج إلى تأويلات وبحوث كثيرة: لأن اسمه “فيروس كورونا” أي “الفيروس التاجي”. وبناءً على تاريخ ترامب الذي كان يوزع التيجان على ملكات الجمال قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، بدا منطقياً للقناة الأولى الروسية أن واشنطن مسؤولة عن انتشار الفيروس القاتل في الصين، بعد أن تعهد ترامب بتدمير اقتصادها. وتناقل كثر من الروس اكتشاف القناة “العظيم” بسخرية، وعلق بعضهم أن العالم كله بات يفهم اللغة الروسية ويعلم أنّ “كورونا” تعني (crown) الإنكليزيّة، ما دفعهم إلى تسمية المرض باسمه الروسي!
لا يعدّ التطرق إلى نظريات المؤامرة ظاهرة غريبة على الإعلام الروسي، لكن اللافت أنها باتت لا تقنع أحداً ولا يمكن أن تجد رأياً علمياً أو تحليلاً داعماً في حال التزام أدنى درجات الموضوعية والعقل. فور انتشار أنباء انتشار الفيروس القاتل، دأبت وسائل الإعلام الروسية يومياً على تحميل الولايات المتحدة ومختبرات الـ”سي آي إيه” مسؤولية استخدام “سلاح كورونا البيولوجي” ضد خصومها، بدءًا من الصين ووصولاً إلى إيران، وسط تجاهل كامل لعلماء ومشرعين روس يدقون ناقوس الخطر، ويحذرون من خطر 30 منشأة روسية لحفظ وتخزين فيروسات وجراثيم قادرة على إبادة الحياة على الكوكب، ومن إمكانات روسيا الهزيلة في المجال الصحي، وانعدام القدرة لديها على التعامل مع خطر تفشي وباء على أراضيها.
واستغلت وسائل الإعلام الروسية المأساة العالمية، لتكشف عن “خطط السي آي ايه السرية” وعن “جرائم” الولايات المتحدة واستخدامها السلاح البيولوجي المحرّم دولياً، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، الأمر الذي أثار حفيظة وزارة الخارجية الأميركية ودفعها لانتقاد ما تبثه وسائل الإعلام الروسية، وكشفت عن ترويج آلاف الحسابات المرتبطة بروسيا على شبكات التواصل الاجتماعي، “مزاعم لا أساس لها من الصحة بأن واشنطن بدأت نشر المرض”. ردت وزارة الخارجية الروسية على تلك المزاعم، السبت الماضي، ووصفتها بأنها “زائفة”؛ وقالت المتحدثة باسم الوزارة، ماريا زاخاروفا، لوكالة أنباء “تاس” الروسية “هذه قصة كاذبة ومتعمدة”.
استضافت القناة الأولى الروسية خبراء وعلماء لـ “كشف المؤامرة”، ونقلت عن إيغور نيكولين – الذي قدمته على أنه عالم فيروسات عمل ما بين 1998 و2003 في لجنة الأمم المتحدة للأسلحة الكيماوية والبيولودية – قوله إن اختيار مدينة ووهان لنشر كورونا “كان بسبب احتضانها معهد ووهان لعلم الفيروسات الذي يقدم للبنتاغون والمخابرات الأميركية غطاءً مريحاً لإجراء تجاربهم البيولوجية”. وذهب إلى أن “المختبرات الأميركية المذكورة سلفاً تقوم بجمع ومعالجة المواد الوراثية للسكان الروس والصينيين من أجل تطوير فيروس عرقي يستهدف شعوباً معينة فقط”. من جانبه، أشار الخبير العسكري الروسي فيكتور بارانيتس إلى أن الحرب البيولوجية أصبحت سلاحاً جديداً “تستخدمه الولايات المتحدة من أجل التفوق على خصومها الرئيسيين”.
وإضافةً لتقارير القناة الروسية الأولى، سارعت قنوات “تسارغراد” و”رين تي في” و”إن تي في” لبث تقارير وأفلام وثائقية “تثبت” تورط واشنطن في انتشار الفيروس “المنتج مخبرياً” في دول معادية لأميركا، مثل الصين وإيران. وفي تقرير مصور بثته “تسارغراد” الأحد الماضي، تحدث علماء ومسؤولون روس سابقون عن نشاطات الولايات المتحدة في مجال إنتاج “الأسلحة البيولوجية الجينية”، القائم على إنتاج ميكروبات وفيروسات مصممة على أساس الهندسة الوراثية، يصاب بها عرق محدد دون غيره، مرجحين أن يكون فيروس “كورونا” من هذا النوع، بسبب أن غالبية المصابين به من الصينيين. كما تطرق التقرير إلى نشاط “المختبرات الأميركية السرية” في الدول المجاورة لروسيا والصين، مستنداً إلى تصريحات وزير الأمن الجورجي الأسبق إيغور غيورغادزه في سبتمبر/ أيلول 2018، والتي تحدث فيها عن تجارب سرية أجراها العسكريون الأميركيون وشركات أخرى خاصة على مدنيين جورجيين داخل المختبرات الجورجية أدت إلى مقتل عدد منهم.
واقتبست التقارير الإعلامية الروسية، تصريحات قائد قوات الحماية من الإشعاعات والأسلحة الكيميائية والبيولوجية في الجيش الروسي، إيغور كيريلوف، الذي أكد أن المركز الأميركي في جمهورية جورجيا المجاورة لروسيا “اختبر جرثومة الطاعون الأفريقي وبعدها انتشرت في روسيا وجورجيا والصين”، مضيفًا أن أبحاث المركز تتركز على المناطق المتاخمة للحدود الروسية، مشيراً إلى أنه “يوجد في العالم أكثر من 30 مختبرا تابعا للولايات المتحدة يجري تحديثها دائماً، وتتميز بمستوى عال من الحماية البيولوجية”.
كما روّجت وسائل إعلام روسية أخرى، لنظرية إنتاج الأميركيين “سلاحاً بيولوجياً جينياً”، مشيرةً إلى “طلب البنتاغون في العام 2018، عبر مؤسسات تتعامل معه، أخذ عينات خلايا جذعية لمواطنين روس، الأمر الذي انتقده ممثلو وزارة الدفاع الروسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، واعتبروا أن “هذه الأعمال غير المسؤولة من قبل البنتاغون، تعد خرقاً للمواثيق والاتفاقيات الدولية، وتتعارض مع الاتفاقيات المتعلقة بحظر الأسلحة البيولوجية”.
من جهته، لم يفوت زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، الشعبوي فلاديمير جيرينوفسكي، الفرصة، وأكد في تصريح لمحطة إذاعية روسية، أن “كورونا” يقف خلفه البنتاغون بمساعدة شركات الأدوية بهدف “نشر أوبئة محلية يمكن أن تدمر مجموعة مختارة من السكان دون الانتشار في دول أخرى”.
ومع زيادة انتشار المرض عالمياً، أكدت هيئة حماية المستهلك الروسية يوم الإثنين الماضي خلوّ البلاد من الإصابات، بعد شفاء اثنين من المواطنين الصينيين أصيبا بالفيروس بداية الشهر الجاري. ومعلوم أنه منذ بداية العام الجديد، أطلقت روسيا حزمة إجراءات وقائية، وصلت إلى منع دخول المواطنين الصينيين أراضيها، وحظر استيراد المنتجات الصينية ووقف الرحلات الجوية والبرية مع جارتها وحليفتها. وأعلن رئيس الوزراء الروسي الجديد ميخائيل ميشوستين عن اتخاذ تدابير إضافية تقضي بترحيل المواطنين الأجانب المصابين بكورونا إلى بلادهم، وسّعها المشرعون الروس لتقضي بترحيل جميع الأجانب المصابين بأمراض وبائية.
الإجراءات الحكومية، إضافةً إلى التقارير الإعلامية المؤامراتيّة وغير الواضحة عن أسباب انتشار “كورونا” تسببت في ظاهرة عداء للآسيويين والصينيين وزيادة حالات التمييز العنصري بحقهم، عززها إطلاق أجهزة الأمن الروسية مدعومة بالهيئات الصحية حملة ملاحقة شعواء على المواطنين الآسيويين والصينيين بالتحديد. إذ فعّلت السلطات الأمنية منظومات التعرف على الوجوه، لتصيّد الأشخاص ذوي الملامح الآسيوية في مدن روسيا، لفحصهم ووضعهم في الحجر الصحي، أو ترحيلهم إلى بلادهم في حال إثبات اصابتهم بأي مرض معدٍّ، ما أدى إلى اعتداءات على مواطنين صينيين، وطردهم من وسائل المواصلات العامة، بالإضافة إلى مقاطعة شعبية لكل ما هو آسيوي، بما في ذلك عمليات طرد وإقالة الصينيين من الشركات والمؤسسات الروسية، ورفض عدد من العاملين بالمستشفيات الروسية الكشف عليهم وعلاجهم، بغض النظر عن مرضهم.
وفي حين تركز وسائل الإعلام الروسية اهتمامها على “المختبرات السرية الأميركية”، يتم بشكل كامل تجاهل حقيقة وجود نحو 30 منشاة لحفظ الفيروسات والجراثيم في الأراضي الروسية تشكل خطراً كبيراً، وصفها نائب رئيس لجنة البرلمان الروسي المعنية بحماية الصحة، ليونيد أوغول، بمستودعات “الفيروسات الرهيبة”، مشدداً على ضرورة حماية السكان من تهديد “مخازن عينات الفيروسات الرهيبة التي تسببت منذ قرون في أوبئة رهيبة وحصدت سكان مدن بأكملها”، ومحذراً في الوقت ذاته من “خطر الحفريات الأثرية التي قد تعيد إلى الحياة أوبئة قديمة”.
رغم اتخاذ روسيا إجراءات صارمة لمنع دخول “كورونا” إلى أراضيها، يحذر الخبراء من عدم جاهزية المؤسسات الصحية للتعامل مع الوباء في حال انتشاره في روسيا، مؤكدين أنّ المستشفيات والعيادات والكوادر الطبية تفتقد إلى تعليمات واضحة للتعامل مع حالات الإصابة. وقالت عالمة الأحياء الجزيئية والصحافية العلمية، إيرينا ياكوتينكو، إنه في روسيا “من المعتاد بالنسبة لنا أن نخفي الأمر أولاً، ثم التصرف فيما بعد بشكل عاجل”. ولفتت إلى أن منطقة أستراخان الروسية تعرضت لانتشار وباء الكوليرا قبل عدة سنوات، موضحةً أنّ السلطات أخفت الأمر وبعد احتدام المسألة، اضطرت للتعامل مع المشكلة بشكل عاجل وصارم، “رغم وجود خطة عمل معتمدة في مثل هذه الحالات، مدرجة على موقع منظمة الصحة العالمية”. وتوقعت الخبيرة الروسية في تصريحات نقلتها عنها عدة وسائل إعلام روسية أن تكون ردة فعل السلطات على فيروس “كورونا” مماثلة، رغم وجود خطة عمل للتعامل مع تهديداته منشورة أيضًا على موقع منظمة الصحة العالمية.
عملياً، اقتصر تعامل السلطات الروسية مع تهديدات فيروس “كورونا” على إجراءات منع دخول المصابين به إلى البلاد، دون وضع خطة عمل واستراتيجية للتعامل معه في حال ظهور مصابين به وسط المواطنين الروس، وانتشاره إلى آخرين. ونقلت صحيفة “نوفايا غازيتا” عن طالبة جامعية من موسكو، أن الأطباء رفضوا إجراء تحاليل لها للتأكد من عدم إصابتها بفيروس كورونا “رغم أني كنت أعاني من أعراض شبيهة بجميع أعراض المرض”، وعدم محاولتهم وضعها في الحجر الصحي، ما قد يهدد بانتشار العدوى بين أشخاص آخرين في حال كانت الفتاة مصابة فعلاً بالفيروس.
كما وقعت حالة مماثلة مع مواطن روسي من مدينة أوفا (جنوب شرق موسكو)، قرر التوجه لمستشفى مدينته لإجراء فحوصات للتأكد من عدم إصابته بالفيروس، بعد عودته من رحلة عمل إلى الصين. وذكرت صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” قبل أيام أن موظفي المشفى الحكومي، فور سماعهم بكلمة “كورونا”، رفضوا معاينة الرجل، وقاموا بطرده من المستشفى، خوفاً من إصابتهم بالعدوى.
سامر الياس
العربي الجديد