اللاجئون السوريون في تركيا بين الرهاب القومي وأفق التحول الامبراطوري

اللاجئون السوريون في تركيا بين الرهاب القومي وأفق التحول الامبراطوري

أطلق النائب عن «الحزب الخيّر» في البرلمان أوميد أوزداغ تصريحات لافتة بشأن اللاجئين السوريين في تركيا، في إطار ندوة عقدها الحزب في مدينة مرعش تحت عنوان: «المسألة المصيرية بالنسبة لتركيا والاقليم هي السوريون»!
أوزداغ المعروف بتصريحاته المعادية للاجئين، والسوريين منهم بخاصة، زعم أن عدد هؤلاء الأخيرين سيبلغ، بعد عشرين عاماً فقط، ما بين 11.5 مليون و15,3 مليون، بالنظر إلى أن المرأة السورية الواحدة تنجب، وسطياً، 5,3 مولود، مقابل مولودين إثنين للمرأة التركية الواحدة، دائماً حسب أرقام أوزداغ الذي يعتبر عدد اللاجئين السوريين «الحقيقي» 5,3 مليون في حين أن عدد «المسجلين رسمياً» هو نحو 3,6 مليون.
ويرفع أوزداغ من جرعة الهلع بإضافته، إلى السوريين منهم، مليوناً و400 ألف لاجئ من جنسيات أخرى، ليصبح إجمالي الغرباء على الأراضي التركية 6,7 مليون، ويعد جمهور مستمعيه بأن حزبه «الخيّر» يناضل من أجل إعادتهم إلى بلدانهم.
غير أن «درة تاج» خطاب أوزداغ تأتي في جملته التالية: «لا يأتي السوريون إلى تركيا لأنهم يتعرضون للقصف بالقنابل، بل يتم قصفهم بالقنابل لكي يأتوا إلى تركيا»!
الواقع أن هناك جانباً صحيحاً في المعادلة المذكورة: نعم، النظام الكيماوي (وإيران) يتعمدون تهجير السوريين من مواطنهم، بالحصار والتجويع والقصف والاحتلال والتعفيش وكل وسائل تحويل مدن السوريين وقراهم إلى جحيم غير قابل للعيش. وقد حدثت وقائع تهجير صريحة حين تم نقل سكان مدن وبلدات بواسطة الباصات الخضراء المشؤومة، من بلدات القلمون والزبداني والغوطة الشرقية ودرعا، ومن مدينتي حمص وحلب، إضافة إلى موجة الهروب الكبيرة التي تجري الآن من مناطق محافظة إدلب وريف حلب. صحة المعادلة تقف عند هذا الحد، أما عبارة «لكي يأتوا إلى تركيا» فهي تعبير عن بارانويا قومية متمحورة حول الذات توسوسها شياطين المؤامرة على الأمة. فكلام أوزداغ يوحي بوجود قوى دولية عملت على دفع ملايين السوريين إلى تركيا بالذات بهدف تغيير معادلاتها الديموغرافية، بل إنه لا يكتفي بالإيحاء بل يتحدث عن ذلك صراحة في بقية كلامه: «إن شعوب الشرق الأوسط وغرب آسيا يأتون في موجات كبيرة إلى الأناضول، مهددين الهوية القومية التركية».

إذا أردنا إعطاء حكم مطلق على التحول المفترض المذكور أمكننا القول إنه تحول محمود يمنح تركيا وزناً أكبر في المعادلات الدولية، ويتيح الأرضية الملائمة لحل مشكلاتها المزمنة المتعلقة بموضوع الهوية

طبيعي، والحال هذه، أن يتجاهل أوزداغ التغيير الديموغرافي المقابل الذي تسببت به عمليات الجيش التركي الثلاث داخل الأراضي السورية، من تهجير السكان الكرد من مدن عفرين ورأس العين وقرى تل أبيض بعيداً عن الحدود التركية، إن لم نقل إن ذلك كان الهدف الحقيقي من تلك العمليات. فالعمى القومي يرى تهجيراً ولا يرى آخر، وفقاً لما يشكله هذا أو ذاك من «تهديدات» أو «مكاسب» لمصلحة «الأمة».
بعيداً عن الوظيفة السياسية المباشرة والانتهازية لكلام أوزداغ، وبعيداً عن أرقامه المبالغ بها لغاية توكيد أفكاره المسبقة، دعونا نفكر بجدية عن الصورة التي يمكن أن تكون عليها تركيا، بعد عشرين عاماً كما فعل أوزداغ بطريقته، وذلك بإضافة عنصر اجتماعي جديد إلى مكونات المجتمع التركي، أي اللاجئين السوريين مع الجيل الجديد الذي ولد على الأراضي التركية أو جاء إلى تركيا في سن صغيرة. فرقم 3,6 مليون بحد ذاته يشكل وزناً ديموغرافياً لا يمكن تجاهله كعدد مطلق أو كنسبة من عدد سكان تركيا الإجمالي البالغ 83 مليوناً، بصرف النظر عن أن الرقم الحقيقي قد يكون أكثر من ذلك. وإذا لم يتم إرغام هؤلاء، أو قسم منهم، على العودة قسراً إلى سوريا، فهم لن يعودوا طوعاً إلى بلد مدمر مع بقاء العصابة الحاكمة التي تسببت في هروبهم جاثمة على أشلاء سوريا وسكانها كما تريد روسيا ولا تعترض عليها القوى العظمى الأخرى.
صحيح أن اللاجئين السوريين، بأكثريتهم الساحقة، يتمنون الانتقال إلى بلد ثالث فيه شروط لجوء أقل سوءاً، لكن أبواب تلك البلدان موصدة في وجوههم، وهذا ما يعني أن السوريين الموجودين اليوم على الأراضي التركية سيبقون فيها ما لم يتم طردهم، وسينجبون أطفالاً تزيد من أعدادهم كل عام، ومن نسبة السوريين إلى إجمالي السكان إذا افترضنا أن معدل الخصوبة لدى الأسر السورية هو أعلى، فعلاً، من مثيله لدى الأسر التركية كما تفترض أرقام أوزداغ.
ماذا يعني أن يكون في تركيا، بعد عشرين عاماً، عشرة ملايين من السوريين مثلاً؟
هو يعني أن «مكوناً» جديداً أضيف إلى المكونات الموجودة مسبقاً في تركيا هو المكون العربي الذي يشكل النسبة الكاسحة من اللاجئين السوريين، أما الكرد السوريون فلن يشكلوا، مبدئياً، إلا إضافة كمية، صغيرة نسبياً، إلى المكون الكردي الموجود مسبقاً في تركيا. ويمكن إضافة مكونات أخرى، أصغر حجماً، كالعراقيين والأفغان والإيرانيين وغيرهم. ألا تشبه هذه اللوحة الديموغرافية تلك التي شكلت نسيج المجتمع في الإمبراطورية العثمانية قبل أن «يشفّيها» أتاتورك من العناصر غير التركية وغير المسلمة؟ ألا يعني هذا، في التحليل الأخير، تحول تركيا من دولة ـ أمة إلى امبراطورية متعددة القوميات والثقافات؟ مع فارق مهم هو بقاء حدود الدولة التركية على ما هي عليها الآن، إلا إذا تمكنت تركيا من الحصول على توافقات دولية تسمح لها بالتوسع من خلال ضم بعض الأراضي السورية. هذا الاحتمال ما زال مجرد افتراض نظري، وليست هناك مؤشرات إلى تحوله إلى أمر واقع على غرار ما حدث، قبل ثمانين عاماً بالنسبة للواء اسكندرون. لكنه يبقى احتمالاً قائماً ما دام الصراع في سوريا وعليها مستمراً.
هل تحول تركيا إلى امبراطورية متعددة القوميات، حتى لو كان ذلك داخل حدودها الحالية، أمر جيد لتركيا أم سيىء؟ تتوقف الإجابة على هذا السؤال على أمور عدة، أهمها قدرة إدارة الدولة على التعامل مع التنوع الثقافي والإمكانات الاقتصادية وغيرها. ولكن إذا أردنا إعطاء حكم مطلق على التحول المفترض المذكور أمكننا القول إنه تحول محمود يمنح تركيا وزناً أكبر في المعادلات الدولية، ويتيح الأرضية الملائمة لحل مشكلاتها المزمنة المتعلقة بموضوع الهوية، وأبرزها المشكلة الكردية التي لا يمكن لتركيا أن ترتاح ما لم تجد حلاً ديموقراطياً لها.
إذا تحقق هذا الافتراض، فهو سيعني أن القيادة السياسية في تركيا اليوم، قد أنجزت تحولاً ثورياً لا يقل أهمية عن التحول الذي جرى بتفكك الإمبراطورية وقيام الدولة القومية في تركيا، تحولاً لم تخطط له بل حدث كأثر موضوعي لبعض سياساتها.

بكر صدقي

العرب