صفقة القرن: صعود التيار السيادي في إسرائيل وإخفاق حل الدولتين

صفقة القرن: صعود التيار السيادي في إسرائيل وإخفاق حل الدولتين

أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 28 يناير/كانون الثاني 2020، عن رؤيته لتحقيق “السلام” بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي تضمنت مقترحات رفضها الفلسطينيون واعتبروها تنتقص من حقوقهم ولا تتضمن إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وطنية على الأراضي المحتلة عام 1967. في المقابل، رحَّبت الحكومة الإسرائيلية بخطة ترامب واعتبرتها تلبي متطلباتها الأمنية والسياسية والاستراتيجية. لا تناقش هذه الورقة تفاصيل خطة ترامب وحيثياتها بل تهتم بتتبع الديناميات السياسية الداخلية فلسطينيًّا وإسرائيليًّا، والتي أثَّرت على الموقف من حل الدولتين. فالخطة الأميركية لم تُنشئ واقعًا جديدًا بقدر ما عملت على فرض “شرعية” على تحولات جيوسياسية عميقة عملت إسرائيل على تحقيقها بثبات خلال الفترة الماضية، مثل: التوسع في المستوطنات وتثبيت فرض السيادة الإسرائيلية على مدينة القدس، وتفتيت مسألة اللاجئين. تجادل الورقة بأن جذور صفقة القرن مغروسة في السياسة الإسرائيلية الداخلية التي تطورت خلال العقد الماضي تجاه تفضيل ضمِّ المستوطنات وفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية -أو أجزاء حيوية منها- والتفاعلات السياسية الفلسطينية الداخلية، كما فشلت القيادة الفلسطينية في بلورة أية خطة بديلة، يمكن أن تتحدى فيها الديناميات الإسرائيلية في فرض السيادة وتخلق بدائل تساعد في التصدي للمخططات الإسرائيلية أو على الأقل التخفيف من حدتها. فبينما أصبحت اليوم الحركات الداعمة لإدامة الاستيطان في الضفة الغربية وفرض السيادة عليها ذات تأثير واضح على السياسة الإسرائيلية، واصل الفلسطينيون تشرذمهم الداخلي مع تراجع ثقة كبير سواء في الحل السياسي القائم على مبدأ الدولتين أو في مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية وقيادتها.

سقوط حل الدولتين

اتبعت إسرائيل على مدار العقدين الماضيين استراتيجيات ثابتة لحسم الديناميات التي أدامت الصراع مع الفلسطينيين وشكَّلت نقاط خلاف أساسية، والتي باتت تُعرف بقضايا الحل الدائم، وأهمها العمل على توسيع المستوطنات في الضفة الغربية وترسيخ السيادة الإسرائيلية الكاملة على مدينة القدس، وطمس قضية اللاجئين. فمنذ التوقيع على اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض، عام 1993، زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية وحدها بأكثر من ثلاثة أضعاف، من116 ألفًا إلى أكثر من 413 ألفًا، عام 2017(1). كما واصلت إسرائيل سياسة تهويد مدينة القدس وإبعاد الفلسطينيين عنها ضمن استراتيجية مستدامة تتكاتف فيها الحكومة الإسرائيلية، والكنيست، وحركات المستوطنين، و”المجتمع المدني” وذلك من أجل قلب المعادلة الديمغرافية في المدينة لصالح المكوِّن اليهودي والمستوطنات، على حساب حقوق الفلسطينيين الذين يعانون من التهميش والفقر والبطالة وغياب التمثيل السياسي، وانقسامات وخلافات داخلية بين المرجعيات الفلسطينية الرسمية والشعبية في المدينة(2). وبالتالي، فإن مبادرة ترامب لم تخلق واقعًا جديدًا بقدر ما عملت على “شرعنة” الواقع القائم، سواء كان ذلك من خلال الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية الكاملة على مدينة القدس، في ديسمبر/كانون الأول 2017، أو تشريع الاستيطان وعدم اعتباره عقبة أمام عملية السلام، كما جاء في تصريحات وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، في تخلٍّ عن مواقف الإدارات الأميركية السابقة التي كانت تعتبر الاستيطان مخالفًا للقانون الدولي. وينطبق ذلك أيضًا على مسألة اللاجئين التي ترفض إسرائيل عودتهم وتنسق مع الإدارة الأميركية من أجل تفكيك هذا الملف وإنهائه(3).

تواصلت خلال العقدين الماضيين الخطوات الإسرائيلية المتسارعة في ضم الضفة الغربية -أو على الأقل أجزاء حيوية منها- والتي تحولت من الناحية الفعلية، بسبب الاستيطان والحواجز العسكرية والطرق المخصصة للمستوطنين والمناطق العسكرية، إلى كانتونات معزولة عن بعضها بعضًا حيث لا يتوافر فيها الحد الأدنى لإقامة دولة متواصلة جغرافيًّا وقابلة للحياة؛ الأمر الذي انعكس تراجعًا في نسبة الفلسطينيين المؤيدين للحل السياسي القائم على أساس “دولتين لشعبين”، وهو المبدأ الذي شكَّل جوهر التفاهمات الفلسطينية-الإسرائيلية، بحسب رؤية القيادة الفلسطينية على الأقل. وجاء إعلان صفقة القرن، التي يرفضها غالبية الفلسطينيين (%94)، ليتراجع تأييد حل الدولتين بين الفلسطينيين إلى (%39)، وهي أدنى نسبة تأييد منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993(4). وتُظهر نتائج استطلاعات رأي حديثة يجريها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بشكل دوري، أن 45% من الفلسطينيين يعتقدون أن الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بات يتمثل في الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي. بالمقابل، يعتقد فقط 22% من الفلسطينيين أن اتفاق سلام مع إسرائيل، يمكن أن ينهي الاحتلال، بينما يرى (%15) شنَّ مقاومة شعبية سلمية سبيلًا لذلك، أما النسبة التي تفضِّل الحفاظ على الوضع الراهن، فهي 14%(5).

بصورة موازية للتحولات في الرأي العام الفلسطيني، تراجع تأييد حل الدولتين أيضًا بين الإسرائيليين بصورة حادة من أعلى نسبة تأييد (%71) في العام 2010 إلى مستوى منخفض بلغ 49% في العام 2018. وفي حال استثناء “عرب 1948” من العيِّنة، تنخفض هذه النسبة إلى 43% بين اليهود الإسرائيليين. ويعزى هذا التراجع إلى إدراك القسم الأكبر من الإسرائيليين لعدم جدوى الإطار الحالي لتحقيق حل سياسي قائم على مبدأ حل الدولتين. على سبيل المثال، اعتقد 81% من اليهود الإسرائيليين، في عام 2018، بأن فرص إقامة دولة فلسطينية في السنوات الخمس المقبلة منخفضة أو منخفضة جدًّا. ومن الناحية العملية، يعتقد 47% منهم أن حل الدولتين غير قابل للتطبيق بسبب التوسع الاستيطاني، في حين أن 44% فقط يعتقدون أنه لا يزال قابلًا للتطبيق(6). وفي ظل تراجع تأييد حل الدولتين بين الإسرائيليين، لم يحظ أي حل بديل آخر للصراع مع الفلسطينيين بدعم واضح وكبير؛ ففي حين أيد 43% حل الدولتين، أيد 19% فقط حل الدولة الواحدة الديمقراطية، و15% يؤيدون الفصل العنصري، و16% يؤيدون حلولًا أخرى غير محددة. ومع ضبابية وانقسام المواقف الإسرائيلية، أصبحت القوى التي تدعو إلى ضمِّ الضفة الغربية وتطبيق السيادة الإسرائيلية عليها الأكثر ديناميكية ونشاطًا في السياسة الإسرائيلية الداخلية؛ ما يتطلب فهمًا أوسع للحركة التي يطلق عليها “حركة السيادة”، ولدورها في التأثير على السياسة الإسرائيلية الداخلية تجاه الحل السياسي.

“حركة السيادة”

تأسست حركة السيادة في عام 2010 جماعةَ ضغط (لوبي) لدعم السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية عن طريق التنظير الأيديولوجي، والنشاط السياسي والميداني(7). ووفقًا للحركة، فإن نشاطات الأحزاب اليمينية لخلق حقائق على الأرض في الضفة الغربية عن طريق التوسع الاستيطاني المدعوم من الحكومة الإسرائيلية لم تؤدِّ إلى إحداث تحولات مشابهة في موقف التيار الرئيسي في إسرائيل تجاه حسم مصير الضفة الغربية، وما دام الأمر كذلك، كما يعتقد ناشطو الحركة، فإن خطر إزالة المستوطنات يخيِّم دائمًا على أي مشروع تسوية مستقبلية مع الفلسطينيين. وسبب هذا التخوف، كما تفهمه حركة السيادة، هو أن اليمين لم يتمكن من تقديم رؤية سياسية بديلة لحل الدولتين وقامت استراتيجيته فقط على التوسع في المستوطنات دون تبني خطة سياسية قابلة للتطبيق. أما البديل الذي تطرحه حركة السيادة فهو مبدأ السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية بوصفها “أرض إسرائيل الكبرى”، وتسعى لمنع إقامة دولة فلسطينية بأي ثمن. ولكن هذا لا يعني أنهم يؤيدون حل الدولة الواحدة والتي يحصل بموجبها الفلسطينيون على الجنسية الإسرائيلية وحقوق مدنية مساوية. على العكس من ذلك، تتبنى الحركة تطبيق أشكال مختلفة من الفصل العنصري القانوني، على سبيل المثال، تطالب الحركة بمنح الفلسطينيين “سلطات حكم ذاتي” على مناطق مفككة بحيث لا يُسمح لهم بالتصويت للكنيست الإسرائيلي بل لسلطاتهم المحلية فقط، أو منحهم حقوق المقيمين دون حقوق المواطنة، كما هي الحال مع سكان القدس.

وتُظهر الدراسات حول حركة السيادة تعاظم تأثيرها على الديناميات السياسية الإسرائيلية الداخلية. ففي دراسة قيد الإعداد(8)، والتي تحلِّل أعداد المجلة التي تصدرها الحركة بعنوان “مجلة السيادة” للفترة ما بين 2013 و2018، أظهر التحليل أنه من بين 168 شخصًا يظهرون في منشورات المجلة، أو يتم إجراء مقابلات معهم، هناك 51 منهم من قادة المستوطنين. تظهر النتائج أيضًا أن ثاني أكبر مجموعة تظهر في منشوراتهم هم أعضاء الكنيست، حيث تم تحديد 39 شخصًا يسهمون في المجلة أو تمت مقابلتهم وكانوا وقت النشر، أو هم حاليًّا، أعضاء في الكنيست، منهم 25 شغلوا مناصب وزارية حكومية كوزراء أو نواب وزراء من الأحزاب اليمينية(9). وبالتالي، فإن حركة السيادة، تعمل جنبًا إلى جنب مع اليمين واليمين المتطرف من أجل خلق حقائق جديدة فيما يتعلق بالضفة الغربية. فمع مرور الوقت، أسهمت الحركة في تعزيز خطاب السيادة على الضفة الغربية ضمن هياكل حزب الليكود والأحزاب اليمينية الأخرى، وظهر ذلك بشكل جلي في الانتخابات الأخيرة لعام 2019، حيث بدأ نتنياهو يؤكد بشكل متزايد ومركزي نيته ضم أراض من الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، وذلك في مسعى إلى جذب مزيد من أصوات اليمين واليمين المتطرف وداعمي حركة السيادة على الضفة الغربية.

وتتزامن نشاطات حركة السيادة مع مجهودات شركاء بنيامين نتنياهو في الائتلاف من اليمين وداعمي الاستيطان والذين يسعون إلى إحداث تغييرات واقعية على الأرض سواء من خلال توفير ميزانيات أكبر للبناء في المستوطنات، أو إنشاء بؤر استيطانية جديدة، وتنظيم النشاط الشعبي والمظاهرات الداعمة للاستيطان. وعلى مستوى السياسات العامة، فإنهم يعملون على جمع الأموال وممارسة الضغوط السياسية بهدف تعزيز التشريعات الداعمة للاستيطان. ومن خلال سيطرة اليمين على وزارة التعليم منذ العام 2015، استثمرت الحركات الداعمة للاستيطان في المؤسسات التعليمية -المدارس والكليات الدينية والمنظمات غير الربحية العامة في المدارس الإسرائيلية والمجتمع المدني- وذلك من أجل الترويج لأجندتهم وزيادة نفوذهم داخل المجتمع والسياسة. ولا يقتصر نشاط الحركات الداعمة للاستيطان على الداخل الإسرائيلي بل يتعداها إلى شخصيات أميركية مؤثرة مثل ديفيد فريدمان، الذي يشغل حاليًّا منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، وشيلدون أديلسون، رجل الأعمال الجمهوري القوي الذي موَّل نفقات إنشاء السفارة الأميركية في القدس، وأنفق مئات الملايين لدعم اليمين في إسرائيل ومشروع الاستيطان. وفي حين أن حلفاءهم الأميركيين المؤثرين لا يستبعدون قيام دولة فلسطينية في المستقبل (في شكل منقوص وممزق) كما يتجلى في مشاركة فريدمان في صياغة صفقة ترامب ودعم أديلسون لها، إلا أنهم لا يبدو أنهم يعارضون مواقف المستوطنين، بل على العكس، هم يتأثرون بها.

الفشل الفلسطيني

في الوقت الذي كانت فيه التحولات الإسرائيلية الداخلية تتجه نحو تعزيز مكانة وأيديولوجية حركة السيادة من الناحية الواقعية على الضفة الغربية، عن طريق تحطيم أحد أهم أسس حل الدولتين، المتمثل في الاستيطان، كانت القيادة الفلسطينية تتبنى استراتيجيات متنوعة، لكنها مرتبكة ومترددة، لإقامة دولة فلسطينية وبسط سيادتها على أراضي الضفة الغربية. ففي ضوء فشل عملية السلام، تمثلت خطوات الرئيس الفلسطيني في ثلاثة مسارات متداخلة: أولًا: السعي إلى الانضمام إلى المنظمات الدولية والحصول بالتالي على اعترافها، وخاصة الأمم المتحدة التي اعترفت بفلسطين كعضو مراقب في عام 2012 فيها. ثانيًا: ممارسة الضغط الناعم على الحكومة الإسرائيلية وذلك عن طريق التحلل التدريجي من بعض التزامات اتفاقات أوسلو ولكن مع إبقاء جوهر هذه الالتزامات نشطًا، مثل التنسيق الأمني. ثالثًا: حشد الدعم الإقليمي والعربي خلف الموقف الفلسطيني. إلا أن الوقائع أثبتت أن خطوات القيادة الفلسطينية لم تخرج عن كونها تحركات رمزية لم تؤدِّ إلى إحداث أي تغيرات جوهرية وواقعية ملموسة في الديناميات الداخلية للصراع مع إسرائيل.

لم تفشل القيادة الفلسطينية فقط في ممارسة الضغط على إسرائيل أو طرح بدائل حقيقية لفشل مسار المفاوضات منذ العام 2014، بل لم تنجح أيضًا في جذب الفلسطينيين إلى استراتيجيات بديلة. فمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي اعتُبرت لفترة طويلة الحاضنة الرئيسية للمشروع الوطني الفلسطيني، تم تهميشها وتحويلها إلى أداة في الصراعات الفلسطينية يتم استدعاؤها فقط من أجل حسم الخلافات الداخلية، وهو ما أدى مع مرور الوقت إلى ضمورها وفقدانها لدورها التاريخي كإطار نضالي جامع للفلسطينيين. وهذا ما يدفع بعض الفلسطينيين اليوم إلى التشكيك في شرعية منظمة التحرير وتمثيلها للشعب الفلسطيني، خاصة أن أحزابًا كبيرة، مثل حركة حماس، لم تنضم إليها، مع أنها تجاوزت في عدد المقاعد التي حصلت عليها في الانتخابات التشريعية، التي جرت في العام 2006، ما حصلت عليه جميع الأطر المنضوية تحت لواء منظمة التحرير(10). وبدلًا من تفعيل مؤسسات المنظمة وتوسيع إطارها لتشمل أكبر عدد من الفلسطينيين، وخاصة الحركات الإسلامية، تآكلت تدريجيًّا فاعلية هذه المؤسسات لصالح مؤسسات السلطة الفلسطينية الوليدة التي أُنشئت بعد اتفاق أوسلو في العام 1993 كنواة لدولة فلسطينية مستقبلية ذات سيادة.

مع تواصل فشل المفاوضات الفلسطينية، منذ العام 2000، ووصولها إلى طريق مسدود بعد انتخاب نتنياهو عام 1999، بدأت المؤسسات الفلسطينية الوليدة تفقد تدريجيًّا شرعيتها والغاية من إنشائها لدى الرأي العام الفلسطيني وأصبحت تشكل عبئًا على تطلعاته المستقبلية. فمن الناحية الإدارية، تشرذمت مؤسسات السلطة نتيجة الانقسام الفلسطيني في العام 2007 ما بين الضفة الغربية (تسيطر عليها حركة فتح) وقطاع غزة (تحت سيطرة حماس)، وتعطل عمل المجلس التشريعي الذي انتهت شرعيته فعليًّا في العام 2010 وفقد وظيفته المؤسساتية. وبدلًا من أن تصبح مؤسسات السلطة إطارًا عامًّا لتعزيز الصمود الفلسطيني، تحولت إلى هدف بحد ذاتها لصراع سياسي فلسطيني داخلي، ما بين حركتي فتح وحماس، اللتين تشكلان الكتلتين الشعبيتين الأكبر والأكثر تأثيرًا على السياسة والمجتمع، وكانت النتيجة إضعافهما وتراجع دافعيتهما السياسية والشعبية. فمنذ الانقسام الداخلي في العام 2007، وقَّعت فتح وحماس العديد من اتفاقيات المصالحة، تلاشت سريعًا ولم يتم تطبيقها مع استمرار النزاعات والتوترات السياسية والأمنية والأيديولوجية بينهما. في المحصلة النهائية، استنفد الصراع الفلسطيني-الفلسطيني مجهودات حركتي فتح وحماس ومنعهما من تطوير استراتيجيات مشتركة وملائمة للرد على السياسات الإسرائيلية المتواصلة في تهويد الأراضي الفلسطينية، وهو ما أعاق وإلى حد كبير، بناء جبهة وطنية فلسطينية موحدة يمكن أن تكتسب شرعية شعبية.

لا تعاني المؤسسات الفلسطينية من الانقسام الإداري والسياسي فقط، بل تضخمت مؤسساتها بعشرات آلاف الوظائف، غالبيتها ذات طبيعة أمنية، أصبحت في قسم منها عبئًا على الشعب الفلسطيني. توظف السلطة اليوم أكثر من 150 ألف موظف ما بين عسكري ومدني يرهقون ميزانية السلطة التي تشهد حاليًّا قلَّة في تدفق التبرعات أو توقفها. وهذا يعني أنه تم ربط حياة ومصير ما يقرب من ثلث الشعب الفلسطيني، أي أولئك الذين يعيلهم الموظفون، باستمرارية أجهزة السلطة الفلسطينية وقدرتها على توفير الرواتب. وبالتالي فإن انهيار السلطة الفلسطينية أو وقف الرواتب، كما بات يتكرر مؤخرًا، سيعمل على إحداث أزمة اقتصادية خانقة يمكن أن تهدد البنية الاقتصادية للفلسطينيين وترابطهم الاجتماعي، خاصة إذا اخذنا بعين الاعتبار ارتفاع نسبة البطالة التي تصل إلى 25%، وترتفع بصورة حادة بين الشباب الذين هم أقل من 30 سنة لتصل إلى 52%، وذلك حسب جهاز الإحصاء الفلسطيني(11) للعام 2019. فالمشكلة الأساسية التي تواجه الشعب الفلسطيني اليوم ليست فقط استمرار الاحتلال والاستيطان، كما يعتقد 29% من الفلسطينيين، بل بنسب متساوية تقريبًا في تفشي البطالة والفقر (28%)، وتفشي الفساد في المؤسسات العامة (%25)، واستمرار حصار قطاع غزة وإغلاق معابره (%14). فعند سؤال الفلسطينيين عن الفساد في مؤسسات السلطة، فإن الغالبية الساحقة (%85) يعتقدون بانتشار الفساد ضمن أجهزة السلطة الفلسطينية، وتعتقد نسبة 65% أنه يوجد فساد في المؤسسات والأجهزة الأمنية التي تديرها حماس في قطاع غزة(12).

ومع تراجع الثقة الحاد في مؤسسات السلطة الفلسطينية، لم يكن الوضع أفضل حالًا بالنسبة لشرعية القيادة الفلسطينية، التي أصبحت تعاني من أزمة ثقة غير مسبوقة. فقد تآكلت شرعية الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، تدريجيًّا وبات يُنظر إليه بصورة واسعة بعين من الشك والارتياب، حيث لا تثق غالبية الفلسطينيين اليوم فيما يقوله. فبعد تصريحاته الرافضة لصفقة القرن والداعية إلى قطع العلاقات الأمنية مع إسرائيل والولايات المتحدة، عبَّرت أغلبية كبيرة (%68) من الفلسطينيين عن اعتقادها بأن الرئيس عباس لا ينفذ ما يقوله. وهذا الاعتقاد نتيجة تجارب وخبرات سابقة متمثلة في تهديدات أبو مازن المتكررة، كما حصل في تموز/يوليو 2017 على سبيل المثال عندما أعلن عن وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل ولكن لم يفعل واستمر التنسيق. وبسبب فشل مشروعه السياسي، يطالب اليوم 62% من الفلسطينيين أبو مازن بالاستقالة (52% في الضفة الغربية و78% في قطاع غزة) (13). ومن المفارقات أن نسبة مساوية (62%) من الفلسطينيين انتخبوا الرئيس عباس في العام 2005 خلفًا للرئيس ياسر عرفات. ومنذ انتهاء فترته الانتخابية في العام 2009، لم تجر الانتخابات مرة أخرى لتجديد شرعية النظام السياسي الفلسطيني وتنشيطه، وذلك بسبب الانقسام الفلسطيني الداخلي.

السيناريوهات المتوقعة

بناء على مسار التحولات الداخلية إسرائيليًّا وفلسطينيًّا، يمكن أن تتفاعل ثلاثة سيناريوهات على المدى القصير والطويل:

الأول: منع قيام دولة فلسطينية: من المتوقع أن تستمر حركة السيادة في تكثيف نشاطاتها الميدانية والسياسية من أجل إحداث مزيد من التغيير في المجتمع والسياسة الإسرائيلية تجاه تأييد مواقفها الداعية إلى ضم الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها. ومع أهمية الإنجازات التي حققتها حركة السيادة في اختراق المجتمع والبنية السياسية الإسرائيلية، يبدو أن الحكومة والجيش الإسرائيلي لا يفضِّلان، في الوقت الراهن وضمن الظروف السائدة، انهيار أجهزة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، خوفًا من الفوضى الأمنية والاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تترتب على ذلك، والتي ستكون مكلِّفة للغاية لإسرائيل. ولكن، في نفس الوقت، لا تسعى إسرائيل إلى تقوية السلطة الفلسطينية، بل تحرص على إبقائها ضعيفة وتابعة تعتمد على إسرائيل في كل احتياجاتها اعتمادًا كليًّا، بحيث يصبح احتمال الاستقلال أو إعلان دولة مستقلة من جانب واحد أمرًا مستحيلًا. فإسرائيل اليوم تتحكم في حياة الفلسطينيين المتعلقة بسجلات الأسماء والمواليد وقطاعات الصحة والبناء والتجارة وشبكات المياه والكهرباء والأمن وغيرها. ومع ذلك، لا تغفل إسرائيل تبعات ومخاطر سياساتها هذه، لذلك وسَّعت خلال السنوات القليلة الماضية تدريجيًّا من صلاحيات الإدارة المدنية الإسرائيلية استعدادًا لأي سيناريوهات مستقبلية، بما في ذلك انهيار مفاجئ لأجهزة السلطة الفلسطينية. فمنذ تولي الجنرال يؤاف مردخاي، منصب رئيس مكتب الحكومة الإسرائيلية في المناطق في عام 2014 –حتى عام 2018، بدأت الإدارة المدنية بالتحول مجددًا لتلعب دور الحاكم الفعلي للفلسطينيين مع تهميش متزايد للسلطة الفلسطينية ومؤسساتها. وفي مارس/آذار 2016، دشنت إسرائيل موقع “المنسق” باللغة العربية على موقع “فيسبوك” من أجل إيجاد علاقة مباشرة ما بين الإدارة المدنية والمواطنين الفلسطينيين تتجاوز فيها السلطة الفلسطينية(14). وقد أعلنت إسرائيل مؤخرًا نيتها في التوسع غير المسبوق في البنية التحتية في الضفة الغربية، مثل إنشاء شبكة قطارات، وطرق جديدة، والتوسع في شبكة الكهرباء. فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة كهرباء إسرائيل عن استعدادها لتنفيذ خطة خمسية لتعزيز شبكة الكهرباء في الضفة الغربية لتتناسب مع الازدياد المتوقع في أعداد المستوطنين بعد ضم المستوطنات، حيث تخطط إسرائيل لمضاعفة أعداد المستوطنين في الضفة الغربية ليصل إلى مليون خلال السنوات العشر القادمة(15). ويمكننا القول بأن هذا التوسع في البنية التحتية والتحكم في إدارة حياة الفلسطينيين، يضع مواقف إسرائيل بشكل أفضل في سيناريو تنهار فيه السلطة الفلسطينية.

الثاني: استمرار تدهور الثقة في القيادة والنظام السياسي الفلسطيني: مع تناقص شعبية أبو مازن الداخلية وفقدان الثقة في مؤسسات السلطة الفلسطينية فمن المرجح أن تزداد أزمة شرعية النظام السياسي الفلسطيني والثقة فيه بشكل حاد. تعمدت إسرائيل خلال السنوات الماضية، وبشكل متكرر، تنفيذ عمليات عسكرية وأمنية داخل المساحات المخصصة للسلطة الفلسطينية (أو ما يطلق عليها مناطق (أ))، ليس فقط من أجل تثبيت سيطرتها الأمنية وحماية المستوطنين، بل والأهم، تحطيم رمزية ومكانة السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية وإظهارهم كضعفاء ومتعاونين. ومنذ الانقسام الفلسطيني، استثمرت السلطة الفلسطينية وداعموها في بناء أجهزة أمنية، خُصِّص لها القطاع الأكبر من الموازنة الفلسطينية، وذلك من أجل المحافظة على الهدوء والاستقرار في المناطق التي تسيطر عليها السلطة من جهة، ولضمان عدم تشكل أي معارضة فعالة، وخاصة من قبل حركة حماس التي يمكن أن تتحدى وتهدد مشروع السلطة السياسي، القائم على الحل السياسي من جهة أخرى. وبينما أدى ذلك إلى تعزيز مصالح إسرائيل الاستراتيجية وحمايتها -وخاصة عن طريق التنسيق الأمني والتعاون في معالجة التهديدات المشتركة ومنع انتشار الفوضى أو العمليات العسكرية ضد أهداف إسرائيلية- استنزف ذلك من شرعية المؤسسات الفلسطينية، حيث يعتقد اليوم حوالي نصف الفلسطينيين تقريبًا (%47) بأن مكانة ودور السلطة الفلسطينية أصبح عبئًا على الشعب الفلسطيني مقابل 46% ممن يعتقدون بأنها إنجاز(16). ومن المتوقع أن تستمر السلطة الفلسطينية في خسارة المزيد من مصداقيتها وثقة الجمهور بها في المستقبل القريب مع انعدام أي بدائل حقيقة يمكن أن تشكِّل بديلًا لفشل عملية السلام.

الثالث: مرحلة ما بعد الانتخابات الإسرائيلية القادمة: اعتمادًا على نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة في مارس/آذار 2020، فإنه من المحتمل بروز ائتلاف يميني متشدد بقيادة نتنياهو أو حكومة وحدة تحت قيادة بنيامين نتنياهو وبيني غانتس، زعيم حزب أزرق وأبيض. وهذان السيناريوهان قد يؤثران على وتيرة الضم، وربما نحو التسارع في فرض السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية، مثل منطقة الأغوار والمستوطنات، ومناطق (ج) التي تخضع حاليًّا للسيطرة الإسرائيلية الكاملة. حققت حركة المستوطنين، مع التوجيه الأيديولوجي لحركة السيادة، إنجازات كبيرة في تعزيز رؤيتهم للضم داخل حزب الليكود الحاكم، مما دفع حتى نتنياهو إلى تبني هذا النهج وتجنيد إدارة ترامب لتأييد موقفه بشأن إضفاء الشرعية على المستوطنات ودمجها في إسرائيل. وفي غياب بدائل للضم من قبل المعارضة الإسرائيلية والأحزاب اليسارية، يمكن أن يستمر التحرك نحو “الضم” دون عوائق، حيث يبدو أن المروجين له هم أكثر فاعلية ضمن دينامكيات السياسية الإسرائيلية، في حين أن آخرين مثل اليسار والوسط الإسرائيلي ينددون بالأساس بمبادرات المستوطنين بدلًا من التصدي لبدائل المبادرة. ويمكن لخطة ترامب أن توفر دفعة أخرى لأجندة الضم لكسب الرأي العام الإسرائيلي. في أحدث استطلاع أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي، ونُشر في يناير/كانون الثاني 2020، قال 40% من المستطلَعين الإسرائيليين اليهود إنهم سيؤيدون ضم الضفة الغربية، بينما قالت نسبة من 40% إنها ستعارض ذلك، وقالت نسبة من 20% إنها لا تعرف(17). ولكن، إذا خسر نتنياهو الانتخابات القادمة أو تمت إدانته بتهم الفساد في محاكمته، التي سوف تبدأ في مارس/آذار 2020، وإزاحته بالتالي عن المشهد السياسي، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى فوضى في التيار اليميني ربما تؤخر اتخاذ خطوات كبيرة تجاه ضم الضفة الغربية أو فرض السيادة عليها. وضمن هذا الإطار، يمكن لنا أن نتوقع أن يقود حزب “أزرق أبيض” تحت قيادة رئيس أركان الجيش الأسبق، بيني غانتس، الحكومة في حال فوزه في الانتخابات القادمة. ولكن، لا يوجد، حتى الآن، ما يشير إلى أن غانتس لديه بدائل عملية يمكن أن يقدمها للفلسطينيين تجاه تسوية مقبولة من الطرفين. فقد أشاد غانتس بخطة ترامب وتعهد بتطبيقها في حال شكَّل الحكومة الإسرائيلية عن طريق التعاون مع دول أخرى في المنطقة. ومع ذلك، فإن خطوة كهذه ستحتاج في البداية لتعاون وقبول شركاء محتملين سواء من اليمين أو اليسار وذلك من أجل ضمان الدعم الكافي لبناء ائتلاف حكومي. ولكن، يرفض اليمين أي خطة سوف تتضمن إقامة دولة فلسطينية، بينما ترفض أحزاب اليسار والأحزاب العربية في إسرائيل أي حلول تستثني الفلسطينيين. لذلك، فمن المرجح في هذه الحالة أن يستمر الوضع الراهن دون أي تقدم حقيقي تجاه حل الدولتين.

خاتمة

إن جذور صفقة القرن مغروسة في الديناميات الداخلية الفلسطينية والإسرائيلية ويجب فهمها ضمن هذا السياق مع عدم إهمال العوامل الدولية والإقليمية التي تؤثر على هذه الديناميات. إسرائيليًّا، تتجه السياسة الداخلية أكثر من أي وقت مضى نحو دعم فكرة ضم الضفة الغربية وفرض السيادة عليها، أو أجزاء حيوية منها، وبالتالي إضفاء الشرعية على نظام من الفصل العنصري. حاليًّا، تسيطر إسرائيل على الضفة الغربية عن طريق الإدارة العسكرية مع سعيها للحفاظ على صورتها الدولية كدولة ديمقراطية، ولكن سينهي الضم من الناحية العملية هذه “اللعبة” وسيجعل إسرائيل دولة ذات نظامين متباينين في الحقوق المدنية للمواطنين على أساس انتمائهم العرقي. فبينما سيتمتع الإسرائيليون بحقوق مواطنة كاملة، سيكون الفلسطينيون مجبرين على العيش ضمن إطار نظام فصل عنصري ينتقص من حقوقهم المدنية والسياسية. وبالتالي، ستفقد إسرائيل مطالبتها حتى بوصفها ديمقراطية إجرائية، في غياب حق الاقتراع العام في الأراضي الفلسطينية والتي تخضع لسيادتها.

فلسطينيًّا، لم تسمح السلطة الفلسطينية بظهور بدائل لخياراتها التفاوضية مع إسرائيل، وهو ما أفقد قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وخاصة الشباب، الدافعية للانخراط في بناء استراتيجيات بديلة من جهة، وأفقد القيادة الفلسطينية موقعها في قلوب وعقول الفلسطينيين من جهة أخرى. فالسلطة الفلسطينية تحتاج إلى عدم الاكتفاء بالحلول التي تقدمها مؤسسات المجتمع الدولي لاسيما أنها أثبتت فشلها، وتحتاج القيادة الفلسطينية لتجديد شرعيتها السياسة والقانونية أولًا، ودعم حوار فلسطيني داخلي للبحث عن مسارات واقعية وقابلة للتشكل والحياة ثانيًا. فبدون إجماع فلسطيني وقيادة فلسطينية نشطة فإن إسرائيل سوف تستمر تدريجيًّا في تحطيم ما تبقى من مقومات الشعب الفلسطيني مع ضمان إبقاء المناطق الفلسطينية عبارة عن كانتونات تابعة لها وغير قابلة للتحول إلى دولة مستقلة وذات سيادة.

مركز الجزيرة للدراسات