حتى الأمس القريب كانت إيران الضامن الثالث، إلى جانب روسيا وتركيا، في تفاهمات أستانة وسوتشي حول سوريا. لكن ما يحدث اليوم على الأرض في إدلب، يقول إن الحوار بشأن المناطق الشمالية غرب نهر الفرات بات محصوراً بين أنقرة وموسكو فقط. وقد أقصيت منه طهران، كما أقصيت من قبل في مفاوضات مناطق شرق الفرات، التي جلس على طاولتها الأتراك والروس والأميركيون.
يعلم الجميع أن التفويض الذي منحه الأميركيون لطهران في سوريا قد سحبه الرئيس دونالد ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018. منذ ذلك الوقت والقوات الإيرانية في سوريا تتحرك بخوف شديد من استهداف إسرائيلي أو مجهول على طول البلاد وعرضها. كما تتحرك بالحدود الدنيا من الإمكانات التي تكاد تنضب بسبب الحصار الذي تعيشه طهران في ظل العقوبات الأميركية.
كل ذلك بقي نظام الخميني قادرا على احتوائه والتعامل معه، حتى قتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اللواء الإيراني قاسم سليماني. غاب عراب الميدان السوري وفقدت معه طهران البوصلة التي ترشد أذرعها العسكرية هناك. أصبح الأمر يخضع إلى اجتهادات أكثر مما يعتمد على التخطيط، ولم يعد هناك من يملي الأوامر الإيرانية المسموعة على قادة الجبهات للجيش السوري وحزب الله.
كان سليماني يمسك بزمام الأمور في الميدان السوري، وكان يمتلك من المعرفة في تشعباته ما يجعله قادرا على اتخاذ القرارات المصيرية التي تحمي مصالح إيران ومكتسباتها. لا يحتاج سليماني إلى الرجوع لطهران في كل صغيرة وكبيرة، بل كان يخطط ويوزع المهام وينفذ بيده أحياناً. وباختصار كان في سوريا يمسك الأرض بما يخلق توازنا بين طهران وموسكو التي تسيطر على السماء.
التصعيد الحالي في إدلب وريفها هو أول منعطف تمر به إيران في سوريا دون سليماني. هي حائرة في التعامل معه كثيرا. ويبدو أنها، بشكل أو بآخر، لا تملك إجابة عن أسئلة كثيرة من قبيل أين يجب أن تقف في الحرب المستعرة شمال غرب سوريا؟ من يجب أن تساند؟ وما هو سقف المساندة؟ وما هو مصير حضورها العسكري في سوريا على ضوء متغيرات كثيرة؟
الأزمات التي تعيشها إيران بين مرض كورونا والعقوبات الاقتصادية والانقسام بين الإصلاحيين والمحافظين في الداخل، وبين الثورات الشعبية التي تواجه نفوذها في لبنان والعراق، والاستهداف الإسرائيلي لقواتها في سوريا؛ كلها تشكل ضغطا على السياسة الخارجية الإيرانية، يجعلها تعاني تخبطا في التعامل مع أزمة منطقة خفض التصعيد التي حددتها مع الروس والأتراك في إدلب قبل أعوام.
بالنسبة إلى الروس والأتراك تبدو الحيرة الإيرانية واضحة وهي تلائمهم كثيرا. لذلك هم يعززونها عبر مواقف متضاربة وإشارات متناقضة بشأن دور طهران في ما يجري على الأرض. وأمام هذه الضبابية في المشهد يبادر الرئيس الإيراني حسن روحاني بالدعوة إلى قمة ثلاثية تجمعه مع نظيريه التركي والسوري لبحث الأزمة، فتردّ أنقرة بقصف إيرانيين كانوا يقاتلون إلى جانب الجيش السوري في ريف إدلب.
ربما يكون هذا القصف هو الرسالة الأكثر وضوحا التي تلقتها إيران بشأن إقصائها عن مفاوضات إدلب. والرسالة الثانية جاءت عبر موسكو من خلال إجراء ترتيبات لقمة ثنائية وليست ثلاثية حول إدلب، تجمع فقط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان. وطبعا يشارك الرئيسان أفكارهما مع الأوروبيين والأميركيين الذين يحاولون أيضاً التدخل في مسار الأحداث.
يتفق الروس والأتراك ضمنيا على أن طاولة المفاوضات هذه المرة ليس بالضرورة أن تضم إيران، أو على الأقل هي المرة الأولى التي يلتقي فيها الرئيسان التركي والروسي كي يرسما الخارطة الجديدة لإدلب ومحيطها. لكلّ أسبابه في تجنب إشراك الإيرانيين في القمة المقبلة، لكن غياب طهران لا يعني القطيعة بينها وبين أنقرة أو موسكو. فلا تزال المصلحة تجمع الدول الثلاث في سوريا.
الدبلوماسية التي يتحدث بها الروس والأتراك عن إيران، تدلل بوضوح على تمسكهم بالإبقاء على شعرة معاوية مع طهران. لا يفضل أي منهم القطيعة معها لأنه يستعد لجميع الاحتمالات، إضافة إلى أن التضحية بإيران أو مخاصمتها في سوريا تصبان في مصلحة دولة واحدة هي الولايات المتحدة، وهي لم تقرر بعد إن كانت ستقف على الحياد في إدلب أم ستساند تركيا الشريكة في الناتو.
السياسة الرمادية للأتراك والروس في التعامل مع إيران، خاصة في أزمة إدلب، زادت من إرباك نظام طهران. لم يعد الإيرانيون يعرفون ماذا ينتظرهم في المفاوضات بين موسكو وأنقرة، ولا يبدو ترقب النتائج والتعامل معها لاحقا رهانا جيدا. ولكن طهران لا تقدر أن تفرض نفسها على طاولة المفاوضات بين الروس والأتراك لأنها باتت الطرف الأضعف ميدانيا، وأبرز أسباب هذا هو مقتل سليماني.
الخيار الوحيد أمام إيران الحائرة الآن هو القتال على جبهات الجيش السوري كي تمنع انهيارها. صحيح أن هذه المهمة باتت أصعب بكثير بعد مقتل سليماني، وبعد أن أصبح تدخل الطيران الروسي في المعارك على الأرض يتناغم مع إيقاع مفاوضات الأروقة المغلقة مع أنقرة. إلا أن التخلي عن دمشق وجيشها الآن، يعني ببساطة إطلاق نظام الخميني النار على قدميه وقبوله بالخسارة في سوريا.
العرب