يعيش العراق مشهدين متناقضين، احتجاجات في الشارع تخوض معركة استعادة “الدولة الوطنية” وقطع مع مرحلة عراق ما بعد 2003، وخلافات سياسية على اختيار رئيس وزراء وتشكيل حكومة يرغب كل طرف في أن تكون على مقاس مصالحه وتكريس حالة الانقسام المستمرة، فيما يتوق مقتدى الصدر للاستحواذ على الحكومة عبر رئيس وزراء تابع له يحافظ على مناصب تياره في الوزارات العراقية.
بغداد- تأبى الاحتجاجات في العراق أن تهدأ، متحدية الوضع الصحي الحرج بعد انتشار فايروس كورونا، والمواجهات العنيفة مع قوات الأمن وتهديدات الميليشيات، مثلما تأبى أزمة تشكيل الحكومة أن تحلّ.
عادت هذه الأزمة إلى المربع الأول بعد انسحاب محمد توفيق علاوي، الذي فشل في الحصول على ثقة البرلمان على قائمته الوزارية. وللمرة الأولى، منذ تغيير النظام بعد الغزو الأميركي في 2003، يصعب على الأحزاب الشيعية في العراق تمرير رئيس وزراء منهم، لأن الكتل الأخرى استطاعت إيقافه. ويبدو أن الحلقة الأهم في هذا الخلاف هو زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، لا أحد يريد حكومة تابعة لمقتدى الصدر!
فشل علاوي
كلف علاوي مطلع فبراير بتشكيل حكومة، وأعدّ قائمة بالمرشحين إلى المناصب الوزارية قال إنهم مستقلون تكنوقراط، وهو أحد مطالب المحتجين. لكن، فشل البرلمان، الذي عدّ الأكثر انقساما في تاريخ العراق الحديث، ثلاث مرات في الالتئام خلال الأسبوعين الماضيين للتصويت على منح الثقة للتشكيلة الحكومية بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني. فيما يبدو السبب الرئيس أن حكومة علاوي المقترحة كانت تحظى بموافقة الصدر وحده.
وقاطعت الجلسات القوى السنية والكردية البارزة. كما كان لافتا موقف بعض الأطراف الشيعية التي رفضت بدورها منح الثقة لحكومة علاوي. وقال المحلل السياسي حميد أبونور “حاول علاوي التوفيق بين مصالح الأحزاب ومصالح الناس لكسب الشارع لكنه فشل في الأمرين”.
ويقول المتابعون إن نقطة التقاء هذه الأطراف الثلاثة عند رفض علاوي هي مقتدى الصدر. وأبدت أطراف شيعية موقفا غير مرحّب بوجود رئيس وزراء تابع للزعيم الشيعي البارز مقتدى الصدر، لذلك رفضت علاوي، رغم أنه تمتع بتحالف فتح التابع لقوات الحشد الشعبي، والذي يعدّ مع تحالف الصدر، الكتلتين الشيعيتين الرئيسيتين في العراق.
يبرر الرافضون الشيعة لمنح الثقة لعلاوي، وأي مرشح يمت بصلة للتيار الصدري، بأن هذا ببساطة يعني استحواذ الصدر على الدولة وينهي أي سلطة لحزب الدعوة والمجلس الأعلى وتيار الحكمة التابع لعمار الحكيم. كما عارض ساسة من الأكراد، بزعامة مسعود البارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف “القوى العراقية” برئاسة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وهي أكبر كتلة للقوى السنية (40 من أصل 329 مقعدا)، دعم المرشح الذي دفع به الصدر خشية فقدان السيطرة على بعض الحقائب الوزارية.
وقال مسؤول حكومي “لو تمت الموافقة على هذه الحكومة فسيكون ذلك في صالح الصدر. فهو يفضل المستقلين لأنهم ضعاف وبإمكانه استغلالهم لمصلحته. فلديه فصيل (مسلح) ويملك القدرة على ترهيب الناس”. وفي ذات السياق، ذهب الكاتب العراقي ماجد السامرائي إلى أن “ما زاد من استياء بعض الكتل الشيعية طريقة مقتدى الصدر في فرض الإرادات وإيحائه بصورة علنية في مقابلة تلفزيونية بأنه هو الزعيم العراقي الأول الذي يقرر مصير الحكم في بغداد، وهجومه المبطن على زعامات القوى الشيعية التقليدية كرئيس تيار الحكمة عمار الحكيم ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، مما ولد انطباعا بأن الصدر يسير نحو التفرّد ودكتاتورية القرار الشيعي بعد أخذه الضوء الأخضر من طهران”.
كشف الموقف الأخير عن معادلة جديدة الخاسر فيها هذه المرة مقتدى الصدر، فيما يرى التحالف الكردي السني نفسه في موقع قوة هذه المرة، في معركة تمت إدارة دفتها بدقة وبنفس يتوقع أن يكون حاضرا في المباحثات التالية لاختيار خليفة علاوي، ما يرشح الساحة العراقية إلى انزياحات سياسية جديدة قد تؤثر في شكل وطبيعة المشهد السياسي في المستقبل.
وعلّق الصدر على التطورات الأخيرة قائلا “إلى متى يبقى الغافلون ممن يحبون المحاصصة، ولا يراعون مصالح الوطن يتلاعبون بمصائر الشعب؟ وإلى متى يبقى العراق أسير ثلّة فاسدة؟”. وبنفس النبرة الحادة قال نصر الشمري، المتحدث باسم حركة النجباء المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي والخاضعة لعقوبات أميركية، إن “فصائل المقاومة وافقت على أن يكون الصدر الصوت الرئيسي في المقاومة. وستؤيد الفصائل في المقابل ما يتخذه من قرارات”. ويبدو واضحا من هذا الكلام حجم الخسارة التي مني بها الصدر من عدم تمرير حكومة محمد علاوي.
ولا تستثني المعادلة الجديدة إيران، التي لا يبدو أن موقفها سيكون حاسما هذه المرة، وفي ظل الانقسام الحاصل في البيت الشيعي. كما يأتي هذا التطور في المشهد السياسي العراقي الداخلي في وقت ما زالت تشعر فيه طهران بوطأة فقدان الجنرال قاسم سليماني، حيث تلاشت بغيابه القوة المنظمة لعلاقتها بمقتدى الصدر ومختلف الأطراف الشيعية والضابطة لها.
لذلك، عادت الأحزاب الشيعية إلى المربع الأول الذي يقع قبل مرحلة احتواء الصدر إيرانيا. فالأحزاب لا تخشى هيمنته على السلطة، بل هي أيضا تنظر بتعال إليه، كونه لا ينتمي بحكم الإرث العائلي إلى الارستقراطية الدينية النجفية.
مثلما تخشى الأحزاب أن يقوم الصدر بابتلاع الدولة كلها فإنها في الوقت نفسه تسعى إلى تطويق قدرته على مدّ جسور خفية مع أطراف نافذة خارج العراق قد يؤدي إجماعها على شخصية الصدر إلى قلب الطاولة على الجميع. وإذا ما استولى على السلطة بطريقة مطلقة أن يفتح ملفات، تفضل الأحزاب أن تظل بعيدا عن الأنظار لما تتضمنه من وثائق إدانة لزعماء، لا يزال في إمكانهم أن يتدخلوا في صنع الحكومات مستفيدين من تغلغلهم في الدولة.
في سياق تلك المعطيات يمكن القول إن الأحزاب لن تسمح للصدر في التحول إلى رقم صعب في صنع المرحلة المقبلة التي ينبغي من وجهة نظرها أن تمر دون عصف، في انتظار الانتخابات المقبلة. وينظر الصدر إلى هذه المرحلة كفرصة مع خروج قاسم سليماني، ونائب الحشد الشعبي أبومهدي المهندس من الصورة، يستعيد من خلالها نفوذه.
ويشير رناد منصور، الباحث في المعهد الملكي البريطاني للسياسات الخارجية (تشاتام هاوس)، إلى أن الصدر، إلى جانب سعيه للدفع بشخصية سياسية موالية لرئاسة الوزراء، يدفع بيده اليمنى، كاظم العيساوي (أبودعاء)، إلى مركز المجموعات شبه العسكرية لإجبار المنافسين، بما في ذلك قيس الخزعلي وأكرم الكعبي، للتجمع تحت قيادته. ويضيف منصور أن الصدر وفي سعيه لاستغلال الأزمة لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل تحوّل إلى شخصية ذات قوة متراجعة في السياسة العراقية. ويؤكد ذلك فشله في تجاوز عتبة تشكل الحكومة برئيس وزراء مدعوم منه.
ويسعى كثيرون إلى أن يعمل رئيس الوزراء القادم على السير بالبلاد نحو إجراء انتخابات مبكرة لتغيير النظام السياسي وعدم القدرة على تلبية مطالب العراقيين. ويقول المحلل السياسي حميد أبونور “الانتخابات وحدها قادرة على تغيير الوضع، لكن إجراءها بحاجة إلى تشكيل حكومة”. لكن، على ضوء التعقيدات الحاصلة يبدو أن “كل من سيأتي بعده (علاوي) ستكون مهمته صعبة”. وقد تطول طريق تعيين رئيس وزراء جديد للعراق.
العرب