تكشف المآسي التي تواجهها دول المنطقة من صراعات داخلية وقمع وتردي في كل أحوال المجتمع، خاصة في وادي النيل ودول الاحتراب الأخرى، مثل سوريا والعراق، عن ملامح مشتركة أهم مميزاتها تراجع الدولة والتنظيم السياسي معاً لصالح العصابة. فمن يمسك بزمام الأمور في هذه البلدان ليس حكومة ومؤسسات دولة، وإنما حلقة تآمرية من أصحاب المصالح المتناقضة مع مصلحة الدولة والشعب، رغم التستر بشعارات من القومية والوطنية والتحرر أو الاشتراكية أو الإسلام وحتى العلمانية.
ولكن هذه الغلالة مع الرقيقة كانت تنكشف مع أول هبة ريح عن فئة صغيرة تستخدم أحقر الوسائل، من تآمر وكذب، وتجييش طائفي وعرقي من أجل التمسك بأهداب السلطة بأي ثمن، بما في ذلك خيانة كل المبادئ التي تتشدق بها. فمن يدعي القومية يخدم طائفته، بل وأسرته، ومن يدعي الاشتراكية يثرى ومحاسيبه من الصفقات السرية مع مؤسسات الامبريالية، ومن يدعي التحرر يسحق شعبه، ومن يدعي محاربة الاستعمار يخدمه سراً وعلانية، ومن يرفع شعار الإسلام يخون الله ورسوله والمؤمنين، ومن يدعي النزاهة يقرب من أبناء طائفته وعرقه من هم أبعد الناس عن ما يصرح به من شعارات.
ولا يكفي أن نتعجب من هذا التصرف ونلعنه، بل لا بد من طرح السؤال المحوري حول سبب تكراره تحت ظروف ومعسكرات فكرية مختلفة جذرياً في منطلقاتها. فهل هي صدفة أن يشترك المنادون بتطبيق الإسلام في السودان وإيران، مع دعاة المقاومة والممانعة في أكثر من بلد، مع دعاة الليبرالية والتحرر، في ممارسات متشابهة، بل متطابقة، في التنكر لتلك المبادئ، والتمسك بنقيضها؟
لا بد للإجابة على هذا السؤال من التصدي للإشكالية المحورية، وهي طبيعة الدولة الحديثة التي يقوم نموذجها الغالب ليس فقط على هيمنة المنظومة الاستعمارية على المنطقة، بل في تداخل هذه الهيمنة مع الواقع الداخلي، وتحوله إلى جزء منه. تجلى هذا الواقع في أوضح صوره في الحالتين الفلسطينية والجزائرية، حيل تحول الاستعمار إلى واقع استيطاني. ولكن الفرق بين الاستيطان والانتداب والتحالفات بين النخب المحلية والتركيبة الاستعمارية تظل اختلاف درجة. وقد كانت الحالة المصرية أكثر هذه الحالات تعقيداً، لأنها شهدت تحولات متداخلة، من استقلال ملتبس (فقد كانت جزءاً من الدولة العثمانية)، إلى وقوع تحت سطوة أجنبية، ثم ثورة، ثم قوع تحت احتلال، فثورة، ثم عودة إلى الهيمنة الأجنبية، حيث ما تزال ترواح مكانها هناك.
ولم يختلف الأمر في بقية الدول العربية إلا من حيث التفاصيل. فالواقع العربي ما زال يعيش تداعيات الهيمنة وآلياتها، وقد فشلت كل محاولات الثورة على هذه الهيمنة، بل تحولت إلى نوع جديد من الهيمنة تعيد إنتاج الظاهرة الاستعمارية بصورة أشد تعقيداً وأشد بشاعة، وتخدمها بإخلاص ووفاء أكبر.
فكما هو الشأن في الحالات المصرية والعراقية والسورية والليبية والسودانية، فإن أشد الأنظمة تنطعاً في دعاوى محاربة الاستعمار انتهت إلى ازدواجية قاصمة من الاستئساد ضد الشعوب والارتماء في أحضان الهيمنة أو التخاذل والانهيار أمامها.
وقد انقسمت الأنظمة في حقبة ما بعد الاستعمار بين «ثورية» صادمت الاستعمار، و»معتدلة» تعايشت معه وانفصلت منه بإحسان، مع استمرار علاقات لم تختلف كثيراً عن تلك التي سادت في الحقبة الاستعمارية. وقد شهدت الأنظمة الثانية استقراراً وازدهاراً أكثر من الأولى، خاصة في ظل تقبلها سياسة السوق الحر والتعاون مع الغرب والرأسمالية الدولية ومؤسساتها.
أما الدول «الثورية»، فوقعت في صدام مع القوى الدولية، وارتمت في نفس الوقت في أحضان المعسكر الشرقي احتماءً به. ولكن ذاك المعسكر كان يعاني بدوله الحصار وتكلفة مناطحة الرأسمالية، فلم يكن قادراً على نجدتها، بل بالعكس، كانت علاقته معها علاقة استغلال أكثر منها علاقة دعم. وبالتالي انتهى الأمر بهذه الأنظمة إلى الاجتهاد في ترميم علاقاتها مع الغرب ومؤسسات الهيمنة الدولية، بل والارتماء في أحضانها، والتنافس في كسب ودها.
وكما انتهت دعاوى التحرر العالمي في الاتحاد السوفييتي إلى امبريالية روسية مكشوفة، كذلك انتهت الأنظمة الحليفة مع روسيا إلى استراتيجية هيمنة طائفية أو عرقية أو عشائرية قبيحة في تخلفها ووحشيتها.
وهذا يؤكد استحالة تفسير هذه الظاهرة الهيكلية بالإشارة فقط إلى بؤس وشرور وأخطاء الحكام. فمثل هذا التفسير يصح لو كنا أمام حالة واحدة أو حالات قليلة. أما مع تواتر الحال وتشابه الأوضاع، فالأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك. فكما لا يصح تفسير سقوط الخلافة الراشدة في الإسلام بتصرفات الأمويين، خاصة في ظل اتباع كل الدول/الدويلات الإسلامية للمنهج الأموي (بما في ذلك الدويلات الشيعية، وحتى حكام إيران الحاليين وحلفائهم في عاصمة الأمويين)، كذلك لا يعقل تفسير التقارب بين الأنظمة العربية القائمة وتواطئها مع الخارج بذم القائمين عليها، رغم أنهم يستحقون كل ذم.
وقد نظر كثيرون لهذه الإشكالية في إطار تحليل (ماركسي المنطلق في الغالب) للرأسمالية العالمية، إما بتوصيف التمدد الامبريالي، والتبعية للمركز الرأسمالي، أو إضافة دور ثالث لما سمي «دول شبه شبه الهامش» (في إشارة لدول المعسكر الشرقي) في تثبيت نظام الهيمنة الرأسمالي (والرشتاين). ولكن هذه التحليلات، حتى لو تجاوزنا المآخذ النظرية الكثيرة عليها، فإنها لا تكفي لتفسير الفشل العربي ذي الطبيعة الخاصة في مقاومة الهيمنة الأجنبية.
هناك من نظر لما سمي بعلاقة النخب المتآزرة في المركز والهامش، عبر مصالح مشتركة مناقضة لمصالح الشعوب. وهذا ينطبق جزئياً على المنطقة العربية، مع إضافة أن ما يربط النخب بالغرب هو أكبر من المصالح. فهناك كذلك تأثر ثقافي وفكري، ووحدة رؤية. ففي دول كثيرة مثل مصر والعراق وإيران الشاه، لم يحكم الاستعمار مباشرة، وإنما حكم عبر نخب وأنظمة حكم مستقلة نظرياً، ولكنها ظلت تؤدي دورها المرسوم لها بحماس ومحبة، حتى تماهت مع هذا الدور، وأصبحت الرؤية الاستعمارية رؤيتها.
روى بعض قادة الحركة الطلابية السودانية أنهم ذهبوا للقاء رئيس الوزراء السوداني وقتها (عن حزب الأمة الحليف التقليدي لبريطانيا) أيام العدوان الثلاثي على مصر، مطالبين بمنع الطائرات البريطانية من الهبوط في المطارات السودانية، وبقطع العلاقات مع بريطانيا تضامناً مع مصر. فرد الرجل بتهكم: «لنفترض أن طائرات بريطانيا قررت استخدام مجالنا الجوي ومطاراتنا، هل أهددهم برفض اتحاد الطلاب لذلك؟». وأضاف بجدية أكثر: «أما عن قطع العلاقات مع بريطانيا، فقطع الله عنقي هذا إن قطعتها!»
مما زاد من عمق الإشكالية انقسام التيارات المناوئة للهيمنة الاستعمارية إلى معكسرات متناحرة: من ليبراليين أرادوا إخراج الاستعمار بدون معارضة لكثير من سياساته الاقتصادية والاجتماعية، وراديكاليين خلافهم مع الاستعمار سياسي واقتصادي، مع تقاطع في الاجندة الاجتماعية، وإسلاميين عارضوا الاستعمار سياسياً واجتماعياً مع تقاطع في السياسات الاقتصادية. وقد لعب هذا التناحر دوراً محورياً في إضعاف المقاومة وتقوية الهيمنة الأجنبية، لأن مناوأة الهيمنة تحتاج إلى كل طاقات وموارد الأمة. لكن كل معسكر كانت أولويته هي مقاتلة بقية المعسكرات وتأجيل مواجهة الاستعمار، بل التواطؤ معه سراً وجهراً، كما فعل معسكرا الحرب العراقية الإيرانية، أو المواجهة السورية العراقية.
في ظل هذه الظروف، يتحول الحكم بالضرورة إلى مؤامرة، والنظام إلى عصابة. ولا يستغرب عندها استغلال كل وسيلة خسيسة، من التجييش الطائفي إلى الفساد والإفساد في هذه الحرب ذات الأولويات المقلوبة. وهذا يفسر جزئياً بقاء المنطقة تحت الهيمنة وفشل كل مشاريع التحرر.
د.عبدالوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي