“في 27 شباط/فبراير، خاطب مهدي خلجي وفرزين نديمي وأريان طباطبائي منتدى سياسي في معهد واشنطن. وطباطبائي هي مشاركة اختصاصية في العلوم السياسية في “مؤسسة راند” ومساعدة باحثة أقدم في “كلية الشؤون الدولية والعامة” في “جامعة كولومبيا”. وخلجي هو عالم شيعي بعلم اللاهوت تلقى تدريبه في قم، وزميل “ليبتسكي فاميلي” في معهد واشنطن. ونديمي هو زميل مشارك في المعهد، ومتخصص في شؤون الأمن والدفاع المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج. وفيما يلي ملخص المقررة لملاحظاتهم”.
أريان طباطبائي
أثبت «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني خلال عملية تحوّله التي دامت عقوداً طويلة أنه يتمتع بمرونة كبيرة وقدرة لا تصدق على التأقلم. وقد أصبح «فيلق القدس» التابع له في عهد اللواء قاسم سليماني عنصراً حاسماً بشكل خاص في البنية الأمنية الإيرانية، الأمر الذي مكّن البلاد من فرض سيطرتها خارج حدودها. لقد كان سليماني المحرك وراء هذا الدور الموسع، متجاوزاً سلفه كقائد «فيلق القدس» الأكثر نفوذاً وشهرة، كما كان محبوباً أكثر من غيره.
لكن عمليات «فيلق القدس» لم تكن أبداً محصورة برجلٍ واحد. ويبدو أن سليماني أدرك قيمة الهيكلية والبيروقراطية، ونتيجة لذلك، فإن التسلسل الهرمي التنظيمي والقصور الذاتي سيخففان من التأثير العملياتي لوفاته.
بالإضافة إلى ذلك، لم يصبح سليماني اسماً مألوفاً إلى أن وسّعت إيران من مشاركتها في الحروب المستمرة في سوريا واليمن. وفي السابق، لم يكن سليماني شخصيةً معروفة جداً، فقد ظل بعيداً عن الأضواء على الساحة المحلية. وبخلاف معظم السلطات الإيرانية العليا، حافظ على موقف غير سياسي جعله محبوباً من الإصلاحيين والمتشددين على حدٍّ سواء.
ولم يكن خلفه، العميد قاسم قاآني، معروفاً لدى غالبية الإيرانيين (ناهيك عن الأمريكيين) حتى وقت قريب. ومن المرجح على ما يبدو أن يحذو حذو سليماني في نهجه الهادئ والمتواضع. وحتى الآن، أجرى عدد قليل من المقابلات العلنية. إلّا أن النظام يتعرض لضغط هائل مؤخراً، كما يتضح من رده القاسي على المتظاهرين وإقصائه الجماعي للمرشحين المعتدلين قبل الانتخابات البرلمانية في 21 شباط/فبراير. لذلك فإن هذه الاضطرابات الداخلية قد تجبر قاآني على تغيير سلوكه.
أما بالنسبة للاختلافات بين القائد الجديد وسليماني، فيبرز فارقان بشكل خاص. أولاً، يفتقر قاآني إلى التأثير والحيوية التي كان يتمتع بها سليماني وبالتالي لا يحظى بنفس القدر من الاحترام من القادة الإيرانيين، على الأقل حتى الآن. ثانياً، عدم إقدامه بعدْ على بناء علاقات الثقة التي أقامها سليماني مع قادة القوات العديدة الوكيلة لإيران في المنطقة، لذلك سيحتاج إلى العمل على بناء هذه العلاقات الشخصية.
ومن المرجح أن تستمر جهود إيران في تعزيز نفوذها في العراق وسوريا واليمن بنفس الأسلوب في عهد قاآني، غير أنه قد يدفع النظام إلى الانخراط بشكل أكبر في أفغانستان بحكم خبرته المكثفة على ذلك المسرح. فخلال الحرب بين إيران والعراق، أشرف على وحدتين من الأفغان الذين قاتلوا نيابة عن طهران. وفي الآونة الأخيرة، أشرف على نشر “لواء الفاطميون” الأفغاني للمساعدة في الدفاع عن نظام الأسد في سوريا. ومع بدء محادثات السلام مع حركة “طالبان” في أفغانستان، يمكن أن تصبح البلاد ساحة منافسة أخرى بين إيران والولايات المتحدة.
وبالنسبة للعمليات في سوريا، سيكون قاآني ونائبه محمد حجازي المستشارَيْن العسكرييْن الرئيسييْن لطهران في ذلك المسرح، على الرغم من اضطلاع «حزب الله» بدور رئيسي في تدريب القوات الوكيلة الإيرانية الموجودة هناك وتجهيزها ومساندتها. ويتمتع أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله بعلاقات وثيقة مع قادة النظام، إلا أنه ليس إيرانياً ولا يستطيع التعامل مع السياسة الداخلية والخلافات الحزبية بقدر مهارة قاآني وحجازي.
أما بالنسبة للعراق، فقد كانت الضربة الصاروخية البالستية التي أصابت منشآت القاعدة الأمريكية في 8 كانون الثاني/يناير محاولةً من قبل إيران لإظهار قوتها بعد اغتيال سليماني، وقد تتبعها إجراءات انتقامية إضافية. وعادة ما تُفضل طهران تجنب العمليات العسكرية المثيرة، ولا تلجأ إلى مثل هذه الإجراءات إلا إذا اعتقدت أنها قادرة على تبريرها على الصعيدين المحلي والدولي. ونتيجةً لذلك، سيكون ردّها البعيد المدى على مقتل سليماني سرياً إلى حد كبير وقابلاً للإنكار على نحو معقول، وقد يشمل استخدام الوكلاء والحرب الإلكترونية.
وبالنسبة للبرنامج النووي، أعلنت إيران بعد فترة وجيزة من مقتل سليماني أنها تتخذ خطوة خامسة خارج إطار «خطة العمل الشاملة المشتركة». وبخلاف الخطوات الأربع السابقة، والتي تضمنت تغييرات ملموسة مثل إعادة تشغيل تخصيب اليورانيوم في منشأة “فوردو”، فإن هذه الخطوة الخامسة لا علاقة لها بأي آلية إنفاذ ملموسة. وبدلاً من ذلك، أصدر النظام تصريحاً عمومياً قال فيه إنه لم يعد يعتبر نفسه مقيّداً بأي شرط في أنشطة تخصيب اليورانيوم – وهو أسلوب أقل استفزازاً قد يشير إلى أن طهران تنتظر بصبر دورة الانتخابات الأمريكية قبل تحديد خطواتها النووية القادمة. وإلى أن يتم نشر تقرير جديد من قبل “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” أو مصادر أخرى، بصورة علنية، ستظل الخطوات الأخرى التي اتُّخذت منذ مقتل سليماني غير واضحة.
مهدي خلجي
نظراً إلى تواضع سليماني وتوجهاته غير السياسية وولائه التام للمرشد الأعلى، فإن موته سيخلّف تداعيات مهمة على آية الله علي خامنئي. فقد كان المرشد الأعلى يأمل أن يستغل اغتيال سليماني لحشد الشعب تحت راية القومية الإيرانية. غير أن النظام أهدر هذه الفرصة بسبب سوء معاملته الفاضحة لمأساة الطائرة الأوكرانية، التي صدمت وأغضبت قطاعات عريضة من السكان.
وفي الوقت نفسه، تمكّن المرشد الأعلى من الاستفادة من عملية اغتيال سليماني من خلال استبعاد العديد من المرشحين المعتدلين والإصلاحيين قبل الانتخابات النيابية التي أجريت الشهر الماضي. وقد شعر المتشددون بالامتنان لرؤيتهم الشعب يلتزم الصمت إلى حدٍّ كبير رداً على هذه الاستبعادات، مما يشير على الأقل إلى بعض التقبّل المتبقي للخطاب القومي المتزايد للنظام.
ومع ذلك، فإن أهم تداعيات وفاة سليماني تتعلق بالخلافة. فانتقال السلطة بين مرشد أعلى وآخر لا يجري وفق عملية نموذجية محددة. فقد كان سلف خامنئي، روح الله الخميني قد استلم هذا المنصب كنتيجة منطقية للثورة الإسلامية عام 1979. وفي عام 1985، عين الخميني حسين علي منتظري ليكون خلفه، وهو قرار أقره “مجلس الخبراء”. ولكن في آذار/مارس 1989، قبل ثلاثة أشهر فقط من وفاة الخميني، تم طرد منتظري بسبب خرقه لآراء المرشد الأعلى بشأن إعدام سجناء سياسيين.
ونتيجة لذلك، احتفظ الخميني رسمياً بمنصبه كأعلى سلطة سياسية ودينية في البلاد حتى وفاته. وبعد ذلك مباشرةً، تم تعيين خامنئي بطريقة تجاوزت العملية الدستورية، حيث أن قرار اختيار خامنئي اتُخذ من قبل مجموعةٍ من أربعة أو خمسة قادة تولوا إلى حد كبير مسؤوليات الخميني خلال فترة مرضه الطويلة، ثم استخدموا موافقة “مجلس الخبراء” لإضفاء الشرعية على هذا القرار.
وفي غياب مجموعة مماثلة من الأشخاص القادرين على التوافق، فمن غير الواضح مَن سيختار خلف خامنئي. وكان من الممكن أن يضطلع سليماني بهذا الدور التحكيمي، حيث أن حياده السيادي جعله وسيطاً نزيهاً. وفي غيابه، من الصعب تصوّر كيف سيوافق «الحرس الثوري» ووزارة العدل ووزارة الاستخبارات وغيرها من المؤسسات المنافسة – بغض النظر عن فصائلها الداخلية المتنافسة – على خلَف خامنئي.
وفي ضوء الأحداث الراهنة، أغلقت إيران حدودها مع ست دول مجاورة بسبب وباء فيروس التاج (كورونا). ومن المحتمل أن يكون لعمليات الإغلاق هذه تداعيات خطيرة على الواردات والصادرات، لا سيما من قم، مركز تفشي الفيروس في إيران ومركز اقتصادي مهم. ويجدر بالذكر أن مدينة قم تملك أكبر جالية صينية في البلاد، والتي تشمل أكثر من 700 طالب في “الحوزة العلمية في قم” و”جامعة المصطفى الدولية”. وحتى الآن، بقي «الحرس الثوري» بعيداً عن جهود التعامل مع الفيروس التاجي في البلاد، على افتراض أنه يتجنب تقاسم اللوم مع حكومة روحاني ورجال الدين الشيعة عن الإخفاقات المتنوعة في اكتشاف علامات العدوى لدى الأفراد المصابين واحتوائهم ومعالجتهم.
فرزين نديمي
إذا نظرنا إلى ما يتجاوز «فيلق القدس»، فقد أصبحت قدرات الصواريخ والطائرات بدون طيار لدى «الحرس الثوري» عنصراً رئيسياً في أعمال الردع لديه وجزءاً متزايد الأهمية من قدراته على إظهار قوته. وتم التأكيد على هذه النقطة عندما استخدمت إيران هذه القدرات للانتقام على مقتل سليماني.
فضلاً عن ذلك، شكّلت الضربة على قاعدة عين الأسد الجوية في العراق في 8 كانون الثاني/يناير، نقطة تحوّل كبيرة في السلوك الإيراني، بإشارتها إلى أن النظام يرى نفسه على قدم المساواة مع أعدائه. وكانت تلك الضربة هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الإسلامية الممتد على أربعين عاماً التي استهدفت فيها علناً منشأة عسكرية أمريكية مأهولة. وكانت الهجمات السابقة إما خفية أو منفّذة في خضم معركة حربية، أو استهدفت منشآت غير مأهولة.
ولا يجب أن يكون هذا التحوّل مفاجأة كبيرة نظراً إلى التصريحات التي أدلى بها القادة الإيرانيون في السنوات الأخيرة والتي تشير إلى اعتقادهم بأن بإمكانهم كسب الصراع مع “الشيطان الأكبر”. على سبيل المثال، ناقش القائد العام لـ «الحرس الثوري» حسين سلامي استخدام “العمليات القائمة على التأثيرات”، أي استخدام الحد الأدنى من القوة لتحقيق هدف عسكري أو سياسي. وفي عام 2015، صرّح أن إيران كانت تستعد دائماً لسيناريوهات أسوأ الحالات؛ وبعد ذلك بعامين، تحدث عن المعايير الاستراتيجية لإيران ومنطقها في استخدام أسلحتها وقدراتها. إن عدم وجود رد أمريكي واضح على ضربة عين الأسد سيُطمئن سلامي وغيره من القادة إلى أن أساليب طهران وعقيدة الردع الشاملة لديها ذات جدوى.
وفي الوقت نفسه، تعمل إيران على تقليص عدد صواريخها الجديدة وتستثمر المزيد في أعمال البحث والتطوير. كما تزيد من استخدامها للتنظيمات الوكيلة بالتزامن مع أسلحتها المتطورة. على سبيل المثال، يقوم النظام الإيراني بتزويد «حزب الله» بقطع الصواريخ لمساعدته على تحديث صواريخه في لبنان باستخدام تقنية التوجيه الدقيق.
قبل خمس سنوات، تحدّث المرشد الأعلى خامنئي عن ردّ قاسٍ ومؤلم إذا تجاوزت الولايات المتحدة الخطوط الحمراء الإيرانية. يجب على المسؤولين الأمريكيين أخذ هذا التهديد على محمل الجد – إذ أن ضربة عين الأسد يجب أن تفتح أعينهم على مواطن الضعف التي تنطوي عليها القواعد الأمامية. وفي المرحلة المقبلة، يجب على الولايات المتحدة تطوير دفاعاتها الصاروخية بشكل كبير، وطمأنة الحلفاء الإقليميين، وإثبات دون أدنى شك أنها تمتلك الوسائل اللازمة لحماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وأنها ستفعل ذلك.
أريان طباطبائي, مهدي خلجي, و فرزين نديمي
معهد واشنطن