هل يلجأ العالم للسياسة الكينزية في معالجة مخاطر كورونا الاقتصادية؟

هل يلجأ العالم للسياسة الكينزية في معالجة مخاطر كورونا الاقتصادية؟

يثير التراجع الذي شهدته أسواق المال الأميركية مساء الثلاثاء، في أعقاب قرار خفض سعر الفائدة الأميركية بنسبة نصف نقطة، العديد من الشكوك حول جدوى السياسة النقدية في مكافحة التداعيات الخطيرة لفيروس كورونا على الاقتصادات العالمية والبورصات.

وتباينت التفسيرات الاقتصادية حول الأسباب التي دفعت المؤشرات الأميركية إلى التراجع في المتوسط بنحو 3.0%.

وقال محللون في موقع “وول ستريت انسايدر”، إن سبب التراجع يعود إلى الخفض الكبير لسعر الفائدة من قبل مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي الأميركي)، وهو ما أثار حالة من الهلع وسط المستثمرين حول الآثار الحقيقية للفيروس التاجي أو “كوفيد 19” على الاقتصاد الأميركي، إذ عادة ما يخفض الفدرالي الفائدة بواقع ربع نقطة، ويراقب النتائج المتوقعة من تيسير السياسة النقدية.

لكن أن يخفض الاحتياط الفدرالي الفائدة على الدولار بنصف نقطة مرة واحدة، فهذا ربما قد يعني أن معلومات تفشي الفيروس في الولايات المتحدة وتداعياته أكبر كثيراً مما أعلنته الحكومة. في المقابل، يرى آخرون أن عمليات الانتظار من قبل المستثمرين الكبار لنتائج القرار كانت وراء التراجع.

لكن أيّاً كان السبب، فإن التفشي السريع والخطير لفيروس كورونا أثار تساؤلات عن فعالية سياسة التيسير النقدي التي تطبقها البنوك المركزية في وقت الأزمات، ونجاعة خفض الفائدة في إنعاش الاقتصاد.

وبينما دعا مستثمرون في آسيا إلى ضرورة عودة البنوك المركزية إلى سياسة التحفيز الكمي بضخ أموال مباشرة في المصارف التجارية وأسواق المال، يرى خبراء اقتصاد ضرورة التخلي كليّاً عن استخدام السياسات النقدية في مكافحة الفيروس “كوفيد 19″، والرجوع إلى سياسات “الإنفاق العام والخفض الضريبي” في تحفيز النمو الاقتصادي، وهو ما يعني العودة إلى النظرية الكينزية التي أسس لها الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز، في منتصف القرن الماضي.

وتستخدم النظرية “الكينزية” في إدارة الاقتصاد خليطاً من سياسات الإنفاق العام والخفض الضريبي والسياسة النقدية في إدارة الاقتصاد.وهي تنظر بنيت على أساس أن الحكومات تستطيع تحفيز النمو الاقتصادي ومستويات الانتاجية عبر زيادة أو خفض معدلات الضرائب والانفاق العام في المشاريع الاقتصادية.

من بين المتشككين في جدوى السياسة النقدية الجديدة لمحاصرة تداعيات أزمة كورونا، الخبيرة الاقتصادية في مصرف “أي أن جي” الهولندي، أيرس بانغ، التي قالت: “في الواقع، إن السياسة النقدية لن تعالج هذا المرض، سواء كانت العملات ضعيفة أو قوية، ولن تتمكن السياسات النقدية من التأثير في الصادرات سلباً أو إيجاباً، لأن انتشار فيروس كورونا حطم سلاسل الإمداد السلعي والتجارة في العالم”.

وترى الاقتصادية بانغ في تعليقات نقلتها صحيفة “فاينانشيال تايمز”، أن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) قد يخفض الفائدة نصف نقطة لمساعدة المصارف التجارية، ولكن ذلك قد لا يكون مفيداً في محاصرة تداعيات الفيروس.

ويلاحظ أن لمصارف التجارية وكبار الأثرياء في النظام الرأسمالي أدمنوا، ومنذ أزمة المال العالمية في 2008، تدفق ترليونات الدولارات الرخيصة على محافظهم الاستثمارية التي تذهب للمضاربة على الأسهم والسلع، ولا تذهب لإقراض الشركات والأفراد، وتبعاً لذلك تعمل على خلق الوظائف الجديدة وتعزيز القوة الشرائية، وهي العوامل التي ترفع من معدلات النمو الاقتصادي.

ومن بين الانتقادات الأخرى التي وجهت للسياسة النقدية، تزايد الفجوة في الدخول والثروة في الاقتصادات الغربية.

ويرى اقتصاديون أن هذا التفاوت في الثروة هو المسؤول الأول والأخير عن نمو الحركات الشعبوية، وإحداث الاضطراب في النظام الرأسمالي والاحتجاجات العمالية التي قلبت موازين الأحزاب التقليدية وتهدد خلال السنوات الأخيرة استمرارية النظام الرأسمالي في أوروبا.

ولاحظ اقتصاديون، أن الصين اعتمدت في نموها القوي وتحديث البنى التحتية على سياسات الإنفاق العام، وليس على السياسات النقدية، وهو ما ساهم في تمكنها من تحقيق معدلات نمو عالية فوق 10% بعد أزمة المال.

وتُعَدّ بريطانيا من بين الدول التي بدأت بعد انتخاب المحافظين بتطبيق سياسات الإنفاق العام لتحفيز النمو الاقتصادي، حيث منح رئيس الوزراء، بوريس جونسون، في الحادي عشر من الشهر الماضي، الضوء الأخضر لأكبر استثمار في البنية التحتية وتحديث شبكة المواصلات في أوروبا. وهو مشروع لإنشاء شبكة حديثة للمواصلات تربط مقاطعات بريطانيا ببعضها. وتقدّر كلفة المشروع بنحو 106 مليارات جنيه إسترليني، أي نحو 137 مليار دولار.

ومن المتوقع أن يخلق المشروع مئات الآلاف من الوظائف الجديدة، ويساهم بشكل رئيسي في تحسين مستويات الدخل في مقاطعات بريطانيا الفقيرة.

ويشير خبراء في مؤسسات دولية إلى المخاوف من التداعيات السالبة للاستخدام المكثف للسياسة النقدية في معالجة الأزمات العالمية، ومضارها على استقرار النظام المالي العالمي الذي أسست له اتفاقية بريتون وودز في عام 1944.

وكان موقع “زيرو هيدج” المصرفي الأميركي قد ذكر في تقرير، أمس الأربعاء، أن العملات الرقمية أصبحت “الملاذ الآمن” للمستثمرين بسبب فقدان الثقة بالنظام النقدي العالمي الذي يعتمد على طباعة الأوراق المالية.

وحسب تحليل في الموقع، فإن عدد الماكينات التي يمكن استخدامها للتعامل بالعملات الرقمية يتزايد بسرعة مذهلة.

وعلى الرغم من أن مؤشرات الأسهم الأميركية حققت ارتفاعاً أمس الأربعاء، في السوق الآجل في آسيا التي عادة تبدأ مبكراً مقارنة بنظيراتها في أميركا وأوروبا، كما وارتفعت في افتتاح تعاملات نيويورك، إلا أن هذا الارتفاع، حتى في حال تواصله لفترة، لا يعني نجاحاً للسياسات النقدية.

وينصح العديد من الخبراء بضرورة العودة إلى تطبيق النظرية الكينزية التي ترتكز على منح دور لكل من القطاعين العام والخاص في النمو الاقتصادي ولكل من سياسات الانفاق العام والسياسة النقدية في إدارة الاقتصاد.