لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع اتفاقا مخلا بالتعهدات التركية في سوريا لهذه الدرجة، لقد اطلقت الرئاسة التركية سلسلة من التعهدات والوعود في إدلب، يبدو أنها كانت موجهة للاستهلاك الإعلامي لا أكثر، لكن كيف يمكن للحكومة التركية أن تقوض مصداقيتها والتزاماتها الدولية، كدولة ضامنة في سوريا، والأهم، لماذا قدمت تركيا كل هذه التضحيات من جنودها في ساحة إدلب، لتعود بهذا الاتفاق للمربع الأول، بل ما قبله؟
لقد تعهدت الرئاسة التركية بإعادة النظام لما قبل حدود سوتشي، وتوعدت بـ«خلع الرؤوس عن الرقاب» إذا لم يتم تنفيذ هذا التعهد الذي وضعت له مهلة زمنية انتهت بنهاية شهر شباط/ فبراير الماضي، كما تعهدت بإرجاع النظام السوري عن نقاط المراقبة التركية المحاصرة، وأطلقت عملية «درع الربيع» لأهداف تتعلق بحماية نقاطها، رغم أن وزير دفاعها فاجأ المتابعين، عند الإعلان عن هذه العملية بالقول بأنها «مستمرة» منذ عدة أيام..
المعارضة السورية، التي عولت كثيرا على الدور التركي، كانت أبرز الخاسرين بضياع نصف محافظة إدلب، أمام أعين نقاط المراقبة التركية، المفترض أنها «ضامنة لخفض التصعيد»، وهكذا فإن المعقل الأخير للثورة السورية بات في مهب الريح، رغم عروض طائرة «بيرقدار» التركية، التي أثارت الحماس في صفوف الناشطين، بدون أي نتيجة ميدانية.
السياسات الارتجالية في الملف السوري عموما، وعدم تقدير تعقيدات الميدان في إدلب، لا بد أن تقود لنتائج كهذه، فالدخول فجأة في أرض نزاع تضم أطرافا متجذرة، تحارب منذ عشر سنوات، يحتاج لتخطيط سابق، لكن ما حصل، أن الهجمات التي شنتها تركيا على قوات النظام السوري، جاءت فقط، ردة فعل على مقتل جنودها الستة والثلاثين، بينما لم تبادر بأي هجمات على قوات النظام طوال شهور عملياته العسكرية على إدلب، لتبدو وكأنها وقعت في فخ ردود الأفعال غير المحسوبة، مع طرف لا تهمه الخسائر كالنظام السوري، بينما انخفضت البورصة والليرة التركية، ونشب استقطاب داخلي تركي سياسي حاد، قاد لمشاجرة في البرلمان، بسبب سياسات الحكومة في إدلب.
وهكذا فإن «ردة الفعل» التي تمثلت بهجمات أنقرة على قوات دمشق، وما تبعها من إطلاق عملية ضبابية «درع الربيع»، لم تكن تهدف أصلا لمواجهة تقدم النظام عسكريا، بجهد عسكري تركي مباشر، بل لانتقام محدود مكانا وزمانا على مقتل الجنود الاتراك، كما كانت بيانات الدفاع التركية تؤكد ذلك بالقول مثلا، «إنها أسقطت طائرتين للنظام السوري، ردا على إسقاط طائرة مسيرة تركية». وظلت وتيرة «ردود الأفعال» تتكرر مع كل عملية جديدة لقتل الجنود الاتراك حتى بعد توقيع الاتفاقية، بدون أن يعي الطرف التركي أن المستنقع السوري لا يمكن التعامل معه بمنطق ارتجالي، ولعل النتائج الميدانية على الارض، كانت تقول ذلك صراحة، فعمليات القصف التركي المكثفة بالمسيرات التي اعقبت مقتل الجنود الستة والثلاثين، رافقها غياب روسي مؤقت، في إشارة روسية واضحة بعدم الرغبة بالتصادم، والأهم، أنها كانت مهلة روسية محددة بيومين لـ»تفريغ شحنات الغضب» التركي، بمعنى أن الروس يعلمون أن الأتراك غير قادرين على الاستمرار بالمواجهات المستنزفة، وأن عودة طائراتهم للعمل في سماء إدلب، سيمنح النظام فرصة لاستعادة ما فقده من قرى خلال الهجوم التركي الانتقامي، وهذا ما حصل، فاستعاد النظام معظم القرى العشر التي فقدها في سهل الغاب، واستعاد كذلك المدينة الاستراتيجية الأهم، سراقب وما حولها من قرى كداديخ وكفر طيخ، ورغم أن المسيّرات التركية حاولت دعم المعارضة في الدفاع عن هذه المناطق، إلا أن الدعم كان محدودا، مقارنة باليومين اللذين أعقبا مقتل الجنود الستة والثلاثين، والأهم أن هذه المشاركة لم تكن مقرونة بخطة متكاملة لمواجهة تقدم قوات النظام، ولا بمؤازرة من مئات الدبابات التركية التي دخلت إدلب بدون أن تغبر زناجيرها في معركة، حتى الآن.
يؤخذ على الحكومة التركية زج نفسها كضامن في اتفاقية دولية، بالشراكة مع حلفاء نظام الأسد، روسيا وإيران
إذن، العمليات العسكرية في إدلب وخسائر الجنود الأتراك، لم يقترن بنتائج ميدانية موازية، ولا حتى بنتائج سياسية موازية، وهذا ما ظهر في الاتفاق الاخير، الذي لم تتمكن فيه تركيا من تحقيق أي من تعهداتها التي أطلقها قادتها. من الواضح أن هذا الاتفاق سيكون كسابقيه، هدنة مؤقتة ويعاود النظام هجماته حتى السيطرة على مركز محافظة إدلب، وقد يترك حينها جزءا من الشريط الحدودي بين محافظة إدلب وتركيا، كمنطقة آمنة لاحتضان النازحين، وملجأ أخير للمقاتلين المعارضين في إدلب واغلبهم من الجهاديين.
هذه السياسات التي تفتقر لرؤية ثابتة، ليست جديدة في إدلب فقط، بل إن المتتبع للأداء التركي في سوريا، سيجد هذا المسار مستمرا منذ بداية الثورة السورية، فالبداية كانت بدعم فصائل المعارضة المعتدلة، وتمرير الدعم الدولي العابر من الحدود التركية، ومن ثم رفض التدخل الروسي في سوريا، وإسقاط طائرة روسية، نتج عن ذلك تبدل الموقف من روسيا من خصم يتم إسقاط طائرته، الى حليف أساسي في الملف السوري، وتتحول أنقرة إلى شريك لطهران وموسكو في إدارة الملف السوري، وبعدها تم إهمال دعم المعارضة تماما، لينتقل الاهتمام إلى الملف الكردي، ليصبح المعيار الأول للسياسات التركية في سوريا، وحتى بهذا الملف، تعرضت تركيا للتخبط نفسه بسبب ضعف نفوذها الداخلي بسوريا، خصوصا في ملف منبج وصولا لتوقيع اتفاقين مع واشنطن وموسكو، يقضيان بسحب القوى الكردية المسلحة من شمال سوريا، أقر الرئيس التركي أكثر من مرة بأنهما اتفاقان لم يتم تنفيذهما حتى الآن، رغم تنفيذ الجانب التركي التزاماته بإيقاف العملية العسكرية. ببساطة، لا يمكن لدولة تدعي انها مهتمة بنصرة المعارضة السورية في معركته ضد النظام، أن تتجاهل سقوط دمشق ودرعا وحمص ( كانت مناطق خفض تصعيد برعاية تركية) وتتجاهل سقوط حلب (الخط الاحمر)، وتنتفض فجأة لتقدم النظام في آخر محافظة للثورة وهي إدلب، وتحديدا بعد مقتل جنودها وليس قبل ذلك.
السبب الرئيسي للتدخل التركي والتصعيد في إدلب، وكما قلنا مرارا، لا يتعلق بتقدم النظام وسقوط أراضي المعارضة، بل بمنع تقدم المزيد من النازحين نحو الأراضي التركية «الأنصار»، وهي سياسة تتبعها تركيا عمليا منذ 5 سنوات على الحدود، وأدت لقتل وجرح الآلاف من النازحين والنساء والأطفال الهاربين من جحيم النظام، بنيران حرس الحدود التركي. لا يمكن لوم الإدارة السياسية التركية، فحدود إمكانياتها ونفوذها المحدود على الفصائل المحلية في سوريا، يجعلها في موضع أقل قدرة على التحكم من طهران وروسيا، لكن يؤخذ على الحكومة التركية زج نفسها كضامن في اتفاقية دولية، بالشراكة مع حلفاء نظام الأسد، روسيا وايران، وعدم الإيفاء بالتزاماتها كدولة ضامنة، كما يؤخذ عليها، التراجع عن موقفها التاريخي باحتضان النازحين السوريين، لتتحول لدولة تمنع دخول النازحين، وبالرصاص إن استدعى الأمر في السنوات الخمس الأخيرة، كما أن التعهدات الحكومية بابعاد ملايين النازحين السوريين خارج تركيا، لا تنسجم مع الصورة التي رسمتها القيادة التركية لنفسها في العالم الإسلامي، كدولة راعية للمضطهدين المسلمين، إضافة لذلك، فإن تحويل بندقية الفصائل المعارضة المرتبطة بها، لأهداف تنحصر في المصالح التركية دون مصالح المعارضة، فتراها تنقل بندقيتهم من عفرين لطرابلس الليبية.
وائل عصام
القدس العربي