منذ الإعلان عن ظهوره في الصين مباشرة، منتصف يناير/ كانون الثاني، لفت فيروس “كورونا” الانتباه بانتشاره السريع في إيران؛ حيث سقط أكبر عدد من الوفيات بعد الصين. لكن تفشي المرض في الجمهورية الإسلامية -وفق منتقدين- حدث بسبب عدم مبالاة السلطات.
إذ تحدى المسؤولون الإيرانيون التدابير الصحية المعتادة في مثل تلك الأحوال؛ فرفضوا فرض حجر صحي على مدينة “قم” (مصدر انتشار الفيروس في البلاد). كذلك، لم تجر السلطات فحوصات مخبرية في المدينة حتى في الأماكن المزدحمة مثل الأضرحة.
وسرعان ما انتقلت الإصابات بالفيروس إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية؛ حيث ثبتت إصابة عدد من المسؤولين ونواب البرلمان.
في بداية الأمر، ظهرت بعض الجدية في مواقف السلطات تجاه الفيروس، الذي أصبح كابوسا في العالم وكذلك في شوارع إيران، لكن مع تقدم الأيام وتسارع أعداد الوفيات، عرى الفيروس وجه السلطات؛ حيث بدأ ينتشر بضراوة بين جنبات الدولة.
إن عدد الوفيات والإصابات، والافتقار إلى الشفافية التي أصبحت تقليدا للدولة في إيران، أثارا حالة من الذعر العام، كما هزَا الثقة في السلطة. كل ذلك أظهر أن الأزمة الحقيقية لم تكن “كورونا”، بل في فقدان الناس كامل ثقتهم في الدولة.
يعتقد الجمهور الإيراني أنه لا يتم التعامل مع الأزمة بشكل جيد، بينما يتصاعد الخوف من الفيروس.
** الإيرانيون توقعوا قدوم الفيروس
أدرك الإيرانيون أن “كورونا” سيأتي إلى بلدهم عاجلا أم آجلا؛ فعلى الرغم من أن العالم بأسره أغلق أبوابه أمام الصين كإجراء وقائي، إلا أن شركة طيران “ماهان” الإيرانية كانت تواصل رحلاتها إلى هناك.
في الأول من فبراير/شباط، حظرت الحكومة الإيرانية الرحلات الجوية المباشرة مع الصين، لكن “ماهان” أقرت بأنها أجرت 9 رحلات على الأقل إلى عدة مدن في الصين، خلال الفترة بين يومي 1 و5 من الشهر ذاته.
وفي 2 فبراير أيضا، أفاد سفير الصين في طهران تشانغ هوا، في تغريدة عبر “تويتر”، بأنه التقى بمسؤولي “ماهان”، وأنهم يريدون مواصلة التعاون.
انتقد بعض النواب الإيرانيين السلطات بسبب عدم الحزم مع شركات الطيران في ظل هذه الظروف. وازدادت ردود الفعل الغاضبة على استمرار هذه الرحلات الجوية، كما زاد الحديث عن تحول إيران إلى محطة ترانزيت لدول أخرى تسير عبرها رحلات إلى الصين.
عندما نستعيد تسلل الأحداث منذ ظهور الفيروس في الصين إلى يومنا هذا، يمكننا أن نرى أن “كورونا” كان في حقيقة الأمر “يتطلع” إلى إيران.
** لقد فشلوا دائما
ربما تعيش إيران حاليا الفترة الأكثر حرجا في تاريخها؛ حيث يصعب سرد الأحداث التي وقعت في الأشهر القليلة الماضية. علاوة على ذلك، لدى الإيرانيين شيء مشترك؛ ففي كل أزمة، تبتعد الدولة أكثر عن الجمهور.
إذ تم قمع رد الاحتجاجات الشعبية على قرار رفع أسعار البنزين، الذي أعلنته السلطات فجأة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ورغم أن الاحتجاجات بدأت بسبب زيادة أسعار سلعة واحدة، إلا أن التأثير السلبي الذي جلبته هذه الزيادة على تكاليف المعيشة كانت كافية لإشعال الغضب في جميع المدن الإيرانية.
وقوبلت محاولة البرلمان للتراجع عن قرار رفع أسعار البنزين برفض من المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، بينما كان الموقف غير المسؤول للحكومة في العملية بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير.
إن قرار رفع أسعار البنزين -الذي اتخذ في الأساس لضبط الميزانية الإيرانية التي أضعفتها العقوبات الغربية- كان له تأثير مشابه لتأثير الجذوة المشتعلة على حياة البلاد. ورغم ردود الفعل الغاضبة حول قرار رفع الأسعار، إلا أن ذلك لم يغير نهج السلطات.
وبينما تحدثت أنباء عن سقوط 1500 قتيل خلال ثلاثة أو أربعة أيام من الاحتجاجات، نفت السلطات تلك الادعاءات، فيما لم تتضح بدقة الأعداد الحقيقية للضحايا والمعتقلين.
لاحقا، أدى مقتل قائد “فيلق القدس” بالحرس الثوري قاسم سليماني في غارة أمريكية بالعراق إلى الإضرار بسمعة إيران في المنطقة. وسعت إيران، من خلال تنظيم جنازات لسليماني في عدة مدن إيرانية طيلة بضعة أيام، إلى تحقيق الاستفادة من هذه القضية، لكن ذلك لم يتحقق.
إذ شاب النجاح الذي حققته السلطات من خلال جمع الإيرانيين حول سليماني، غياب التنظيم في الجنازة؛ حيث قتل العشرات جراء تدافع في مدينة كرمان (وسط).
وفي سياق آخر، تشير بعض المعلومات إلى أن إيران اتصلت بمسؤولين أمريكيين، وأبلغتهم مسبقا بنيتها شن هجوم على القاعدة الأمريكية في العراق (قاعدة عين الأسد). مع ذلك، حاولت إيران تسويق العملية داخليا وخارجيا بالقول: “لقد انتقمنا لمقتل سليماني من خلال إسقاط هيبة الولايات المتحدة”.
لكن هذا الفرح لم يدم طويلا؛ فإسقاط الحرس الثوري الإيراني لطائرة أوكرانية، ظنا منهم أنه صاروخ أمريكي، تسبب في أضرار جسيمة لمكانة إيران، من حيث قوتها العسكرية وثقتها بنفسها.
في الحقيقة، كل هذه الأمور التي كانت مخفية عن الجمهور الإيراني وعن العالم، ونقلت الوضع لمنطقة أكثر خطورة.
استمر كبار المسؤولين الإيرانيين في إنكار المسؤولية عن إسقاط الطائرة لمدة ثلاثة أيام، وخلال ذلك تم تقديم أطروحات مختلفة ونظريات مؤامرة لتشويه المسألة، وفي أبسط أشكالها تم الكذب على الجمهور.
لكن في النهاية، اضطرت السلطات الإيرانية بفعل الضغوط الكندية والأوكرانية إلى الاعتراف بأن الطائرة قد أُسقطت.
وفي أعقاب الحادثة، لم تتم إقالة أي مسؤول إيراني، كما لم تتم مقاضاة أحد. وواجهت السلطات ردود فعل الإيرانيين الغاضبة جراء ذلك بالقبضة الحديدية كما في حوادث مماثلة.
الخلاصة: إيران التي أرادات استخدام وفاة سليماني لتوحيد الناس ضد العدو الذي حددته الدولة، فقدت كل شيء في لحظة واحدة، ووجدت الجمهور ضدها. لقد اهتزت ثقة الجمهور بالدولة وأصبح الجمهور أكثر تشككا في كل شيء.
** كورونا والانتخابات
أعلنت السلطات الإيرانية أول حالة وفاة بـ”كورونا” في 19 فبراير. لكن ما أثار شكوك الجمهور كان الإعلان عن حالة وفاة بدلا من أن يكون الإعلان عن أول حالة اشتباه بالفيروس.
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن فترة حضانة الفيروس تستمر من 14 إلى 27 يوما، يمكننا أن ندرك مرة أخرى حجم الكارثة التي على وشك الحدوث. بالنظر إلى سرعة انتقال الفيروس، فمن الواضح أن كل دقيقة يمكن أن تكلف المزيد من حياة الناس.
ليس سرا أن الدولة الإيرانية، وخاصة خامنئي، يهتمون بإبراز الإقبال الكبير على التصويت الانتخابات، خاصة عندما يتعلق الأمر بصورة الشرعية أمام العالم؛ لذلك، تم التعامل مع الإقبال بأي ثمن على أنه مسألة حياة أو موت، خاصة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، عندما كانت المنافسة غير ممكنة بسبب الضغوط السياسية.
وعندما ينظر المرء إلى إقبال الجمهور في هذا السياق، يظهر أن إخفاء إصابات “كورونا” عن العامة ربما بسبب مخاوف السلطات من أن يؤثر ذلك سلبيا على الانتخابات.
إن النهج السياسي الذي تبناه المسؤولون الإيرانيون بشأن قضية إنسانية حساسة مثل الصحة، يمثل في الواقع دليلا على مدى أهمية وجهة النظر هذه، حيث جرى تسييس عملية التعامل مع “كورونا”.
في بيانه الأول، قال خامنئي: “بدأ الأعداء حربا دعائية لمهاجمة البلاد باستخدام كورونا”. وأدلى الرئيس حسن روحاني بتعليق مماثل، واتهم “عدو إيران اللدود (في إشارة للولايات المتحدة) بمحاولة استخدام الفيروس لغرس الخوف في الناس”.
وقال روحاني إنه “يجب أن لا يتحول فيروس كورونا إلى سلاح في يد أعدائنا لإيقاف العمل والإنتاج في بلدنا”.
من الممكن أن نرى مسؤولي الصحة من بين أولئك الذين فسروا المرض بطريقة سياسية منذ البداية؛ حيث قال نائب وزير الصحة الإيراني، إراج هريرشي، إن “إيران تواجه حربا دعائية”.
إنَ كل القضايا المتعلقة بارتفاع أسعار البنزين وقتلى نوفمبر، وضحايا التدافع في جنازة سليماني وسقوط الطائرة الأوكرانية، والانتخابات “غير التنافسية”، والعديد من القضايا الأخرى التي تسببت في استياء الإيرانيين، جرى استبدالها الآن بفيروس كورونا.
النقطة التي وصل إليها الإيرانيون، الذين كانوا يتحدثون عن قضايا جذرية، مثل تغيير النظام قبل بضعة أسابيع فقط، هي مسألة حياة.
والسؤال حاليا ما إذا كان الشعب الإيراني، الذي فقد الثقة في الدولة وفقد الأمل في الغد، سيختار الاستسلام أو التمرد على “مصير النظام” المفروض عليهم بعد هذه الأزمة؟
في الحقيقة، من الصعب الإجابة على هذا السؤال قبل انتهاء أزمة “كورونا”.
الأناضول