كوارث واشنطن “الشرق أوسطية”

كوارث واشنطن “الشرق أوسطية”

لا حدود لسخرية الأقدار. وقمة السخرية أن يقود عمل مخطط له إلى واقع عبثي. وفي الحالين تراجيدياً. هذا ما بدا بعد نحو عقدين من غزو أميركا لأفغانستان والعراق وأحلام “الشرق الأوسط الجديد”. وهذا ما انتهى إليه المشهد على قمة العالم بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وجلوس أميركا وحدها على القمة وسط فانتازيا “نهاية التاريخ”. المعادلة في أفغانستان صارت: من طالبان وإلى طالبان نعود. وفي العراق: من نظام شمولي علماني إلى فوضى “ديمقراطية” تتحكم بها قوة ثيوقراطية. في المنطقة: فوضى وحروب أهلية وحنين إلى الشرق الأوسط القديم. وعلى قمة العالم خطر الوقوع في “فخين” حذّر منه البروفسور في هارڤرد جوزف ناي: “فخ ثوثيديدس” المؤرخ الإغريقي، وهو حرب يمكن أن تنشب بسبب خوف قوة عظمى من صعود قوة منافسة. و”فخ كيندلبرغر” مهندس مشروع مارشال، وهو القلق حيال قوة ضعيفة جداً أكثر مما هي قوية. لكن الخطر لا يزال في إطار الحرب الباردة بين أميركا وكل من الصين وروسيا وإيران. ولم يكن مجرد نقاش نظري في مؤتمر ميونيخ للأمن أن تسيطر على المحاضرات قصة صعود الصين وتدخل روسيا ونفوذ إيران وضعف المانيا واحتمال بقاء الرئيس دونالد ترمب لأربع سنوات جديدة. فالرئيس الأميركي يرى أن العالم “ميدان تنافس على المصالح” وليس “مجتمعاً دولياً”. ولا كان غريباً أن يسأل مدير المؤتمر وولفانغ اتشينغر: “لماذا نبدو كأننا نعيش في كرتين أرضيتين”؟

والوقائع ناطقة. بعد نحو عقدين من إرسال أميركا مئات آلاف الجنود لغزو أفغانستان والعراق وإسقاط النظامين فيهما، وإنفاق ثلاثة تريليونات دولار وتكبد آلاف القتلى والجرحى وإيقاع مئات ألوف الضحايا في البلدين، تعود واشنطن إلى توقيع اتفاق مع طالبان لوقف النار تمهيداً للانسحاب خلال 14 شهراً، وتستعد للتفاوض مع العراق على الإنسحاب. فما أقامته في أفغانستان هو نظام ضعيف أقرب إلى اللانظام لا يستطيع حماية نفسه ولا تقديم الخدمات لشعبه، بحيث صارت عودة طالبان إلى السلطة في كابول مسألة وقت. وما أقامته في العراق هو محاصصة طائفية تتمتع فيها أحزاب “البيت الشيعي” بالغلبة، وتهيمن إيران عليها وبالتالي على السلطة. أميركا أدركت أنها خدمت إيران من حيث أرادت أو لم ترد. وكان الجنرالات الذين خدموا في أفغانستان يقولون للسياسيين: “لا مجال للإنتصار هنا، وكل ما نستطيعه هو منع الهزيمة”. لا بل أن الجنرال كارل إيكنبري اختصر الوضع بالقول: “أميركا حاولت تحقيق أهداف ثورية بوسائل كولونيالية”. وهي انسحبت من العراق أيام الرئيس باراك أوباما تاركةً الأرض ناضجة لظهور داعش. وحين قرر الرئيس ترمب الإنسحاب من الإتفاق النووي مع إيران وممارسة “الضغط الأقصى” عليها، فإن تهجمه على أوباما في كل شيء لم يمنعه من أن يستكمل تطبيق خطة سلفه الإستراتيجية: الانسحاب أو أقله تخفيف الوجود الأميركي في الشرق الأوسط للتركيز على التنافس والمواجهة مع الصين وروسيا في الشرق الأقصى.

وما أكثر المفارقات في ممارسة الإستراتيجية. حصار إيران وفرض العقوبات عليها من أجل دفعها إلى التفاوض وما يسمى تغيير السلوك لا تغيير النظام، مع رفض “انخراط عسكري طويل المدى في الشرق الأوسط”، كما قال وزير الخارجية مايك بومبيو. وبالمقابل فإن حرص طهران على النفوذ وزعزعة الإستقرار في المنطقة مع شعار الأمن الإقليمي بلا قوات أميركية، قاد إلى تركيز ثماني قواعد عسكرية أميركية فيها. أمّا التنافس مع الكبار، فإنه يبدأ بخطأ استراتيجي وينتهي بخطيئة جيوسياسية. الخطأ الإستراتيجي هو انطلاق ترمب في تطبيق ما بدأه أوباما في التوجه نحو المحيط الهادئ من اعتبار “أن التحالفات تضعف أميركا بدل أن تقويها”. والخطيئة الجيوسياسية هي أولاً التقليل من قيمة أوروبا في موازين الصراع. وهي ثانياً خطة وزير الدفاع مارك إسبر لسحب القوات الأميركية من أفريقيا والشرق الأوسط تحت عنوان التحول نحو الشرق الأقصى. إذ تخدم الخطة روسيا والصين في الشرق الأوسط وأفريقيا. روسيا المنخرطة عسكرياً في سوريا وتقيم قواعد بحرية وجوية ترسل مرتزقة “فاغنر” إلى ليبيا وموزامبيق، وتتطلع إلى ميناء بربرة على ساحل أرض الصومال كموقع لقاعدة عسكرية لها، وتتلقى رسائل من دول الصحراء الأفريقية لمساعدتها في محاربة الإرهاب الأصولي. والصين تنفق تريليون دولار على مشروع “الحزام والطريق” وتزيد الإستثمارات في أفريقيا وتبني المعامل والسكك الحديد وميناء عسكرياً في جيبوتي إلى جانب ميناء عسكري أميركي.

ومع أن أميركا تواجه روسيا “كقوة ثأر” والصين “كمنافس حقيقي” فإنها “لا تملك استراتيجية عظمى للتعامل مع روسيا” كما يقول سفيرها السابق في موسكو مايكل ماكفول. ولا نأخذ بقول الزعيم الصيني شي جيبنغ أنه “ليس لدينا جينة الهيمنة”، فهي تراقب كيف طورت الصين صواريخ قاتلة لحاملات الطائرات. وهي أجرت 18 لعبة حرب مع الصين حول تايوان، فخسرت فيها جميعاً. لا بل أن القلق الأميركي حيال الصين قديم حيث مارست سياسة “الكبح الإستراتيجي ضد ماوتسي تونغ قبل المصالحة معه كما ضد ستالين بعد التحالف معه، حسب كيڤن بيرانو في كتاب: قوة سريعة: ماو، ترومان، وولادة الصين المعاصرة”.

واللعبة طويلة. الحد الأدنى فيها، كما يقول خبير صيني هو “حرمان أميركا من مواقعها في المحيط الهادئ”. وما يريده الروس، حسب ديمتري سايمز، هو “أميركا ضعيفة ورئيساً غير ضعيف ليفاوضوه ويتعاونوا معه”. والمسألة هي كيف تلعب. ومختصر ذلك ما يرويه وليم بيرنز في كتاب “القناة الخلفية” عما سمعه من الرئيس فلاديمير بوتين حين قدّم له أوراق اعتماده كسفير أميركي في موسكو: “ليس خطأي إذا لعبت بيدي الضعيفتين بشكل قوي ولعب الذين أياديهم قوية بشكل ضعيف”.

رفيق خوري

اندبندت العربي