فشل اجتماع أوبك مع الشركاء في فيينا فانهارت أسعار النفط، حيث أظهرت روسيا تعنتاً في الاستجابة لخفض الإنتاج وعاشت الأسواق اضطراباً مع افتتاحها منذ فجر الاثنين الماضي، إلا أنها عادت للصعود اليوم مع انتعاش الآمال بعودة الطلب وإعلان الصين محاصرة كورونا في مناطق محددة.
محللون في شؤون النفط يرون أنه لا عودة للتوازن إلا بالعودة لاستقرار السوق باتفاق أضلاع مثلت منتجي النفط العالمي (أوبك – والمنتجين خارجها- والشركات الأميركية المنتجة للنفط الصخري)، مما يشكل دعماً كبيراً لإخماد حرب الأسعار التي أعقبت فشل الاتفاق الجمعة الماضي. ويشير محللون ومختصون إلى أن “المواجهة النفطية الأخيرة وضعت شركات النفط الصخري الأميركية في مأزق الخسارة، بعد أن استغلت اتفاق خفض الإنتاج لصالحها وزادت من إنتاجها لمستويات قياسية وسط مستويات أسعار مرتفعة”، مرجحين أن الحل الأمثل لاستعادة السوق لتوازنها أن تتفق الأطراف الثلاثة على سياسة جديدة تبقي الأسعار عند مستويات مقبولة للجميع.
يشير المحللون إلى أنه ليس هناك مواجهة روسية سعودية، لكن هناك اختلاف في الأولويات على إطفاء حريق الأسعار، وبعد أن اشتعلت الأسواق ها هو وزير الطاقة الروسي، ألكساندر نوفاك، يعلن اليوم أن “روسيا لا تزال منفتحة على مزيد من التعاون مع منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) لإعادة الاستقرار إلى سوق النفط”.
وقال نوفاك لقناة “روسيا 24” التلفزيونية “أودّ أن أقول إن الأبواب لم تغلق”، مضيفا أن عدم توصل روسيا إلى اتفاق مع أوبك على تمديد خفض الإنتاج “لا يعني أنه لا يمكننا التعاون مستقبلاً مع الدول المنضوية في أوبك وتلك التي خارجها”.
وسجلت أسعار النفط أكبر تراجع يومي لها منذ حرب الخليج في 1991 بتعاملات أمس الاثنين وسط التسابق على رفع الإنتاج واستعداد العديد من الدول التوجه نحو زيادة حصصهم بكميات كبيرة دون التزام قيود، لتنخفض الأسعار عند أدنى مستوى منذ 12 فبراير (شباط) 2016.
وتراجعت العقود الآجلة لخام برنت 10.91 دولار بما يعادل 24.1 في المئة ليتحدد سعر التسوية عند 34.36 دولار للبرميل، في حين سجلت أعلى تراجع بجلسة الاثنين بنسبة 31 في المئة ليسجل 31.02 دولار، فيما هوى الخام الأميركي غرب تكساس الوسيط 10.15 دولار أو 24.6 في المئة ليغلق على 31.13 دولار للبرميل. وكانت أكبر خسائره خلال الجلسة بنسبة 33 في المئة إلى 27.34 دولار.
عودة النفط بعد الهبوط
إلا أن النفط ارتد،ّ اليوم الثلاثاء، بنحو عشرة في المئة بعد يوم من أكبر هبوط في نحو ثلاثين عاماً، إذ تتجه أنظار المستثمرين إلى تحفيز اقتصادي محتمل، وأشارت روسيا إلى أن المحادثات مع أوبك ما زالت ممكنة.
وصرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أمس الاثنين، بأنه سيتخذ خطوات “كبيرة” لإعداد الاقتصاد الأميركي لمواجهة تأثير تفشي فيروس كورونا، بينما تخطط حكومة اليابان لإنفاق أكثر من أربعة مليارات دولار في حزمة ثانية من الخطوات للتعامل مع الفيروس.
وارتفعت العقود الآجلة لخام برنت 3.36 دولار، ما يعادل عشرة في المئة تقريباً، إلى 37.72 دولار للبرميل، وذلك بعد أن بلغت أعلى مستوى في الجلسة عند 37.75 دولار للبرميل. وربح خام غرب تكساس الوسيط الأميركي 3.14 دولار أو نحو عشرة في المئة، إلى 34.27 دولار للبرميل، بعد أن بلغ مستوى مرتفعا ًفي الجلسة عند 34.42 دولار. وبلغت أحجام التداول في عقد أقرب استحقاق لكلا الخامين مستويات قياسية مرتفعة في الجلسة السابقة بعد انهيار اتفاق استمر ثلاث سنوات بين السعودية وروسيا ومنتجين كبار آخرين للنفط للحدّ من الإمدادات يوم الجمعة، مما أثار حرب أسعار لزيادة الحصة السوقية.
ضمان الاستقرار وشركات الصخري
وعلى ذات الصعيد، يشير صادق الركابي، المحلل في شؤون النفط في لندن إلى أنه “كان حرياً بشركات النفط الصخري أن تبرم مع دول أوبك اتفاقاً شبيهاً باتفاق أوبك+ مع روسيا، وذلك لضمان حدوث توازن مقبول بين العرض والطلب ولتجنب تخمة المعروض أو التعدي على حصص البعض، لكن هذا لم يحدث واستمر منتجو الصخري بالإنتاج رغم العديد من التحذيرات التي وجهت إليهم”.
وأضاف الركابي أن “شركات النفط الصخري استفادت كثيراً من اتفاق أوبك+، حيث أنها تمكنت من الاستمرار بالإنتاج مدعومة بأسعار النفط المرتفعة نسبياً، وفي الوقت الذي خفضت فيه أوبك+ إنتاجها بمقدار 1.7 مليون برميل يومياً كان منتجو النفط الصخري يزيدون إنتاجهم بمعدل 750 ألف برميل يومياً، حتى أن وكالة الطاقة الدولية كانت قد توقعت أن يصل إنتاج الولايات المتحدة من النفط 13.2 مليون برميل يومياً هذا العام و13.6 مليون برميل يومياً بالعام المقبل”.
التكيف مع الأسعار
وحول مدى تكيف شركات النفط الصخري مع أسعار النفط المتراجعة، أجاب الركابي “بعد الموقف الأخير في اجتماعات أوبك نجد أن بعض منتجي الصخري قد يتكيف مع سعر 25 دولاراً للبرميل بسبب الدعم المقدم من حكومة ترمب وشراء الشركات الكبيرة لحصص الشركات الأصغر منها، بالإضافة إلى قرارات الاندماج التي قد تساعد تلك الشركات على تحمل عبء تراجع الأسعار في الأسواق”.
لكن من جهة أخرى فإن معظم منتجي النفط الصخري يواجهون أزمة تراجع الطلب العالمي على النفط مع ارتفاع ديونهم لأكثر من 200 مليار دولار، ومنها 40 مليار دولار تستحق هذا العام. لذا قد يكون من الصعب أن يستمر البعض من دون أن يعلن عن إفلاسه أو إيقاف العمل بالحفر، ما يعني انخفاضاً ملحوظاً سنشهده في عدد المنصات، وفق محلل شؤون النفط.
الحصص السوقية
وتابع الركابي “الهم الأول لدول أوبك هو ألا تخسر حصصها السوقية لا سيما في أوروبا والصين، لذلك فإن الرفض الروسي لخفض الإنتاج كان سيؤدي حتماً لزيادة حصة روسيا على حساب الدول المنتجة الأخرى. كما أن الرفض الروسي ليس بسبب حجم الخفض المطلوب منها ومن الدول الأخرى في أوبك+ وحسب، وإنما لأن بقاء الأسعار فوق مستوى الخمسين دولاراً مع تراجع إنتاجها سيؤدي إلى زيادة إنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري”.
وأشار إلى أنه لا يجب إغفال الاتفاق المرحلي بين بكين وواشنطن والذي يتضمن زيادة واردات الصين من النفط الأميركي، كما أن المعضلة الحقيقية تكمن في أن زيادة الإنتاج لمنع تراجع الحصص سيؤدي حتماً لزيادة المعروض في السوق المتخمة أصلاً، والتي يتباطأ فيها الطلب بسبب انخفاض مشكلات بنيوية في هيكل الاقتصاد الصيني سبقت أزمة كورونا وتعطل حركة التجارة العالمية بسبب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وما حدث اليوم من تعطل سلاسل التوريد وقطاعات النقل والطيران والسياحة وغيرها التي تراجعت بسبب الفيروس.
وتوقع الركابي أن حرب الأسعار أو سياسة زيادة الإنتاج لتعويض الخسائر “ستزيد الطين بلة، ولن يكون هناك رابح فيما يجري”، وسيكون ثمن الحفاظ على الحصص السوقية باهظاً.
ويرى أن زيادة الإنتاج النفطي لدول أوبك أو خارجها سيكون له أثر سلبي يمتد لعامين في الأقل بعد تجاوز الأزمة إلى أن يرتفع الطلب وتتناقص المخزونات للدول المستهلكة.
الخاسر الأكبر
من جانبه، قال مصطفى البزركان، رئيس مركز الدراسات وبحوث الطاقة في لندن، إن الخاسر الأكبر هي شركات النفط الصخري التي تكبّدت ديونا كبرى، ومن الواضح أن روسيا وبعض المنتجين يواجهان تنامي إنتاج الصخري.
وأضاف أن روسيا لم يكن الاعتماد عليها في أي وقت محل استقرار نظراً لتضارب مصالحها مع المنتجين الآخرين، لكن الفرصة الآن مناسبة لموسكو لاحتواء الغول الصخري مع اضطراب أسعار النفط.
وبحسب المحلل البزركان، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يحاول اتباع نهج سياسي واقتصادي معتدل، لكن هذه المرة لم يستطع مع الضغوط الكبيرة من الشركات الروسية، لا سيما وأن المتابع للمواقف من اتفاقات أوبك وحلفائها خلال السنتين الماضيتين بات يدرك أن المنافع التي جنتها روسيا مقابل التزامات شركات بلاده كانت في حقيقتها متذبذبة وأقل مما كانت تعد به. في حين كان العبء الأكبر على “السعودية”، المنتج المرن في أوبك والتي عملت دوماً على حماية مصالح المنتجين كافة.
وأوضح البزركان أن السعودية حاولت في عام 2014 مجابهة الصخري بخفض الأسعار لكن لم يكن له تأثير، الآن اختلف الوضع في ظل ضعف الطلب العالمي بسبب تفشي “كورونا” والضعف المتوقع بنمو الاقتصاد العالمي.
وقال إن العامل السياسي يلعب دوراً وقد يتدخل ترمب، وبدأت ضغوط على السعودية، بحسب تصريحات وزير المالية الفرنسي، والذي طالب الرياض بصفتها تتولى رئاسة قمة العشرين أن تقود مبادرات الحفاظ على توازن الأسواق النفطية.
وتابع “لا بد من اجتماع الأطراف الثلاثة من منتجي النفط، أوبك والمنتجين خارجها، بالإضافة إلى شركات النفط الأميركية الخاصة، لأن السقوط الحر لأسعار النفط لا يهدف لإخراج الشركات من السوق ويمكنها أن تنضم إلى نادي منتجي النفط وتتفق لحماية مصالح الجميع”.
وقال البزركان إن “الانتظار سيد المواقف خصوصاً أن المواجهة النفطية الأخيرة هدفها شركات النفط الصخري التي أنفقت 400 مليار دولار من القروض لإنتاج النفط والغاز الصخريين بأعلى المستويات والاستحواذ على حصص المنتجين التقليديين، وبعض شركات الصخري قد يعلن إفلاسه، وأخرى عليها تسديد قروض تصل إلى 100 مليار دولار، ومعه لن تتحمل أسعاراً منخفضة”.
ويرى البزركان أن المشكلة والحل عند شركات النفط الصخري الأميركي التي رفضت أي تعاون، ولكنها خلال الجلسات الأخيرة تتعرض أسهمها لأكبر خسائر بين 28 و36 في المئة من قيمتها، وسيكون لكل قرار ثمن وخسائر.
قطاع النفط الروسي قادر على المنافسة
من جانبه، قال وزير الطاقة الروسي، الاثنين، إن قطاع النفط في بلاده سيظل قادراً على المنافسة والمحافظة على حصته السوقية بصرف النظر عن توقعات الأسعار.
وحسب بيان للحكومة الروسية، قال الوزير ألكسندر نوفاك، في اجتماع مع رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، إن انحدار أسعار النفط، التي تكبدت اليوم أشد خسائرها اليومية منذ حرب الخليج في 1991، لن يؤثر على قطاع النفط الروسي.
وتابع نوفاك “صناعة النفط الروسية تملك قاعدة موارد عالية الجودة وهامشاً كبيراً من القوة المالية لتظل قادرة على المنافسة عند أي مستوى سعر متوقع، فضلاً عن المحافظة على حصتها السوقية”.
المستهلكون أبرز المستفيدين
من جهته، قال جون لوكا، مدير التطوير لدى شركة ثانك ماركتس، مقرها دبي، إن التراجع الكبير في أسعار النفط سينعكس إيجاباً على الدول المستوردة للنفط والمستهلكين عبر انخفاض تكاليف المحروقات، ولكن يجب أن يستقر البرميل عند المستويات المتدنية بعض الوقت حتى ينعكس بالفعل على المستهلكين.
لكن لوكا يرى أن انهيار الأسعار قد يعيد روسيا إلى إعادة المباحثات بشأن خطة جديدة لخفض الإنتاج، وإن كان بشروط أخرى، والتي من المرجح أن تشمل شركات النفط الصخري والتي تستحوذ على حصص المنتجين الأصليين كلما قاموا بخفض للإنتاج.
وأضاف أن الولايات المتحدة كافحت لدعم شركات النفط الصخري لدعمها، ولذلك تعتقد روسيا أن ثمة فرصة لإلحاق الأذى بالصناعة الأميركية، لافتاً إلى أن التراجع الحاد بالأسعار سيضع تلك الشركات تحت ظروف مالية صعبة وقد يشهر بعضها الإفلاس، كما ستنخفض أرباح الشركات النفطية الكبرى بنحو كبير.
فاتورة خسائر دول أوبك يومياً
وقدّرت وكالة “رويترز” خسائر إيرادات دول أوبك بقيمة 500 مليون دولار بعد انهيار أسعار النفط بتعاملات أمس وتراجع ثلث قيمته، وفقا لمتوسط إنتاجهم في فبراير (شباط).
وفي معظم الحالات، يتصدر النفط قائمة مصادر الدخل بالنسبة إلى أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول وسيفرض مثل هذا النزول الحاد في الأسعار ضغطاً على اقتصاداتها، وبعضها بالفعل، مثل إيران وفنزويلا، على حافة الهاوية.
كما تتجلى الخسائر بشكل أكبر بكثير عند مقارنتها مع المستوى المرتفع الذي بلغه برنت في يناير (كانون الثاني) عند 71.75 دولار للبرميل.
غالب درويش
اندبندت عربي