قبل عاصفة كورونا، كان الاقتصاد العالمي يمر بمخاض انتقالي عسير، تنحسر فيه الكثير من النشاطات تدريجيا. وفجأة “قرر” فايروس كورونا وقوع الانقلاب فورا، الأمر الذي يهدد بعدم قدرة الدول على دفع ثمن هذا التحول الصادم.
لندن – ينشغل العالم بالتداعيات الكارثية الهائلة لتفشي فايروس كورونا على جميع مظاهر الحياة، دون أن يجد متسعا من الوقت للحديث عما بعد هذه الأزمة التي تنتهي حتما بعد إيجاد لقاح فعال في غضون عدة أشهر أو ما يصل إلى عام في أقصى تقدير.
بمرور الوقت سيتضح أن التداعيات الاقتصادية هي أخطر ما في الأزمة لأن الفايروس سيعجل فرض نظام اقتصادي عالمي جديد قبل أوانه ودون أن تكون الحكومات مستعدة لدخوله.
قبل تفجر أزمة الوباء كان نموذج الاقتصاد العالمي يتجه إلى تحول تدريجي تنحسر فيه الكثير من النشاطات الاقتصادية، حيث كانت نشاطات ما يعرف بالشارع العام تلفظ أنفاسها في وقت تزحف الأتمتة والتسوق الإلكتروني على الوظائف التقليدية.
الاقتصاد العالمي كان يمر بمخاض انتقالي عسير، تموت فيه تلك النشاطات تدريجيا على مدى سنوات طويلة. وفجأة “قرر” فايروس كورونا وقوع الانقلاب فورا، الأمر الذي يهدد بعدم قدرة الدول على دفع ذلك الثمن.
وتشير بيانات السنوات الماضية إلى أن نشاط المتاجر التقليدية والمطاعم والحانات والمقاهي والنشاطات الفنية والموسيقية، كانت تكافح من أجل البقاء، الأمر الذي يجعل عودتها إلى نشاطها السابق بعد أزمة كورونا في غاية الصعوبة. وتنصح الكثير من الحكومات العاملين في معظم القطاعات بالبقاء في منازلهم، رغم أنها لن تستطيع دفع أجورهم وفواتيرهم التي لا يمكن الهروب منها.
وتعاني معظم الحكومات أصلا من ارتفاع العجز في موازناتها وارتفاع الإنفاق على الدعم الاجتماعي وإعانات العاطلين عن العمل وكبار السن، في وقت يمكن لتلك الالتزامات أن تتضاعف عدة مرات في ظل شلل النشاطات الاقتصادية.
كما أن الملايين من الشركات في قطاعات الطيران والسياحة والتجارة والبناء معرضة للإفلاس، إذا استمر الوباء لفترة طويلة، الأمر الذي يهدد وظائف مئات الملايين من الأشخاص في أنحاء العالم.
وستجد الحكومات نفسها فجأة أمام التزامات مالية مضاعفة دون متسع من الوقت للتأقلم معها، مع ارتفاع البطالة وانهيار إيرادات الدول بسبب الشلل الاقتصادي.
لا يمكن حصر جميع الزلازل التي يمكن أن تحدث للاقتصاد العالمي، إذا انتشر وباء الفايروس بدرجة مشابهة لشمال إيطاليا، حيث تم حجر ثلث سكان البلاد في منازلهم.
الثمن الاقتصادي الباهظ قد يفرض تخفيف إجراءات الوقاية الاستثنائية حين يدرك العالم استحالة وقف انتشار الفايروس
ويمكن لسيناريو من هذا النوع أن يشل النشاط الصناعي والتجاري وجميع مظاهر الحياة ويؤدي إلى انهيار معظم الشركات العالمية.
ويجمع المحللون على أن التداعيات الاقتصادية التراجيدية لتفشي فايروس كورونا، أخطر بكثير من أزمة تحوله إلى وباء عالمي، ومع ذلك فمن المستبعد إيجاد وسيلة لإيقاف حالة الهلع من أجل انقاذ الاقتصاد العالمي.
وتعكس خسائر أسواق المال التي بلغت عشرات مليارات الدولارات مجرد قمة طافية من جبل الخسائر لأن الشركات المدرجة لا تمثل سوى نسبة صغيرة من مجمل نشاط الاقتصاد العالمي.
ويستبعد محللون أن يعود سلوك الأشخاص بعد هذه الصدمة إلى ما كان عليه من حيث السفر والسياحة والاختلاط بالتجمعات الكبيرة والأسواق والحفلات والفعاليات الرياضية، حتى لو انتهت أزمة فايروس كورونا.
لا يمكن إيقاف حالة الهلع في الأسواق، رغم تزايد الأصوات التي تحذر من أن الكارثة الاقتصادية ستكون لها تداعيات تفوق أكبر مما يلحقه تفشي الفايروس، لأنها يمكن أن تدمر نسيج الاقتصاد العالمي.
ويشير إعلان منظمة الصحة العالمية عن تحول الفايروس إلى وباء عالمي وبيانات انتشاره السريع، إلى أن جميع الإجراءات الوقائية لن تتمكن من منع تفشي الفايروس، وأن جميع الحالات التي تم رصدها لا تمثل سوى رقعة ضئيلة من خارطة انتشاره الفعلية.
وبدأت التصريحات الحكومية تتأقلم مع الحقائق المرة، حيث رجحت الحكومة البريطانية خسائر كبيرة في الأرواح خاصة بين كبار السن ومنخفضي المناعة، لتهيئة الرأي العام لخطر اتساع الكارثة.
ومن المتوقع أن يفرض الثمن الاقتصادي الباهظ، الرضوخ لضرورة تخفيف إجراءات الحجر والتفتيش الاستثنائية حين يدرك العالم استحالة وقف انتشاره، خاصة أن نسبة كبيرة ممن يحملون الفايروس لا تظهر عليهم أعراض المرض ولن ترصدهم الحواجز.
لكن ذلك سوف يحدث بعد أن يكون الاقتصاد العالمي قد تعرض لضرر كبير تصعب معالجته. وتكون عجلات الاقتصاد العالمي قد تباطأت وتوقف بعضها ويكون من الصعب إعادة تدويرها مجددا.
انهيار الشركات في أكثر القطاعات تضررا مثل السياحة والطيران والترفيه يمكن أن يطلق تأثير الدومينو ويسقط أحجار كثير من شركات التأمين وتتجمع الأعباء على النظام المصرفي الذي يعاني أصلا من مصاعب كبيرة.
هناك أيضا الأضرار التي لا يمكن حصرها في الشركات غير المدرجة في أسواق المال والمطاعم والمتاجر الصغيرة والنشاطات الفردية ومئات الملايين الذين يعيشون على حركة السياحة.
هناك مئات الملايين من الأعمال التجارية التي عليها التزامات وقروض وفواتير كبيرة، لن تتمكن من دفع أجور العمال حين يتوقف نشاطها ويبقى الزبائن والعمال في بيوتهم، أي أن أعدادا هائلة من الشركات ستواجه الإفلاس وسيفقد مئات الملايين من الأشخاص وظائفهم.
حتى البلدان التي لم ينتشر فيها الفايروس على نطاق واسع، مثل بريطانيا، تراجعت فيها الحركة في الشوارع وانخفض عدد مرتادي المقاهي والحانات والمطاعم وتم إيقاف النشاطات الرياضية والترفيهية والمعارض وجميع الأنشطة التي يكثر فيها الاحتكاك بالآخرين.
من المتوقع أن تعجل أزمة كورونا في نهاية أنماط اقتصادية كانت تصارع من أجل البقاء وتفرض واقعا جديدا، سيكون بمثابة نظام اقتصادي جديد، تنقرض فيه الكثير من النشاطات التقليدية بسرعة دراماتيكية ويفرض تحديات شاقة على الدول للتأقلم معها خلال وقت قصير.
العرب