تفتح الضربات الأميركية الجديدة في العراق، على معسكرات ومواقع متقدمة للفصائل المسلحة، الباب مجدداً أمام تصعيد أمني آخر قد لا يكون محدوداً هذه المرة ويفتقد لصفة السيطرة عليه، خصوصاً مع ضعف ومحدودية صلاحيات حكومة تصريف الأعمال الحالية، وتعثر تشكيل حكومة جديدة، وتغول نفوذ المليشيات في الدولة العراقية، وغياب الضابط والمنسق الأول لعملها، إذ يغلب على العلاقة في ما بينها طابع التنافس على النفوذ واتساع الخلافات منذ قتل القوات الأميركية لزعيم “فيلق القدس” قاسم سليماني، مطلع العام الحالي.
فلم يكن مفاجئا مقتل جنديين أمريكيين وآخر بريطاني، في قصف قاعدة التاجي العراقية، الذي جاء بعد أيام من زيارة شمخاني، مسؤول الأمن القومي الإيراني لبغداد، فالقرار الإيراني بإقلاق الوجود الأمريكي في العراق، وصولا لتنفيذ انسحاب من العراق، هو قرار استراتيجي، وإن كان سيمر بانعطفات تكتيكية تحول دون تصعيد غير محسوب.
وفي المقابل أن استخدام الحكومة العراقية، في بيانها الرسمي الذي أعقب القصف الصاروخي على معسكر التاجي، الأربعاء الماضي، والذي تسبب بمقتل العسكريين الأميركيين والبريطاني عبارة “عملية إرهابية”، أعطى مبرراً للولايات المتحدة لتنفيذ الهجوم، موضحاً أنها المرة الأولى التي تستخدم فيها السلطات العراقية الرسمية عبارة “عملية إرهابية” على عمليات تنفذها فصائل مسلحة في العراق منذ العام 2003. ويستبعد أن تكون طبيعة المواجهة المقبلة بالعراق على طريقة ضربة بضربة بين الولايات المتحدة والفصائل المسلحة، فالأخيرة “توغلت في مختلف مؤسسات الدولة الأمنية، وتشاركت بالقواعد والمعسكرات مع قوات الجيش، لذا فإن استمرار الولايات المتحدة بالقصف على هذا المنحى يعني سقوط خسائر أيضاً في صفوف القوات النظامية، كما أن واشنطن ولندن، وبحسب معرفتي، لا تريدان انهيار العلاقة مع بغداد بشكل كامل”.
لكن من المستبعد استنساخ الولايات المتحدة تجربتها في أفغانستان خلال السنوات الماضية، من خلال إطلاق عمليات اغتيال لرؤوس مهمة بتلك الفصائل واستهداف مخازن وبنى تحتية لها بين وقت وآخر تساهم في إضعافها، ولن يكون الأمر مقتصراً على العراق، لكن سورية ستكون ساحة مواجهة أيضاً. أن الولايات المتحدة سترد بضربة أكبر وأوسع في حال تم استهداف مواقع ومعسكرات تابعة لها.
لذا تحاول الميليشيات الشيعية المرتبطة بالحرس الثوري، والمقبلة على مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية أن تجعلها «محسوبة» بعناية، وتصعيد حذر، يراعي ثلاثة اعتبارات، الأول هو جرّ الأمريكيين إلى معركة تراعي فارق القوة العسكرية بين الطرفين، بحيث تتحاشى الميليشيات تنفيذ ضربات تحدث خسائر ضخمة، تستدعي ردا أمريكيا شديدا، وتحاول كذلك الحفاظ على سقف للمواجهات لا تتعدى القصف المتبادل، وهي خسائر يمكن للميليشيات احتمالها، لكن سيكون من الصعب على الأمريكيين مواصلة تقبل قتل جنودهم لفترة زمنية ممتدة، وإن بأعداد قليلة، لأن هذا يعني حرب استنزاف، فالرد الأمريكي الأخير، أدى إلى مقتل نحو 20 عنصرا من الميليشيات، في قصف استهدف كلاً من مقرات لحزب الله العراقي في جرف صخر جنوب بغداد، ولحزب الله وبدر شمال كربلاء، وعصائب أهل الحق في بلد في محافظة صلاح الدين، وكذلك كتائب الإمام علي ولواء الطفوف في القائم في الأنبار، وكذلك في الصويرة في واسط، تم استهداف كتاب الإمام علي، ورغم عدد القتلى العشرين، وتدمير عدد من المقرات، لوحظ أن عددا كبير من مقرات الميليشيات كانت فارغة بالأصل، لأن الميليشيات كانت قد أعدت نفسها لهذه المواجهات منذ مقتل سليماني، حتى إن بعض قادة العصائب والميليشيات كقيس الخزعلي والكعبي وغيرهما، لجأوا للاختباء في أماكن سرية خشية استهدافهم.
وإضافة للاعتبار الاول الذي تهدف له القوى الموالية لطهران، بضبط إيقاع المواجهات بالقصف المتبادل، من دون تصعيد يصل لهجمات برية من قبل الأمريكيين مثلا، فإن الاعتبار الثاني الذي يبدو أن طهران حريصة عليه، هو إبعاد الحكومة العراقية، المشكّلة أصلا من نسيج القوى الشيعية المهيمنة على الميليشيات، عن التأثر بهذه المواجهة، حفاظا على سلطة موالية لطهران، يجب أن لا تتأثر بهذا الصدام المرشح للتصاعد، على الرغم من أن التقارير تشير إلى أن الكثير من المقرات التي استهدفت كانت لوزارة الداخلية العراقية، وهو مثال جديد على التداخل الحاصل بين أجهزة الدولة والميليشيات الشيعية.
أما الاعتبار الثالث، فهو الحفاظ على قواعد اشتباك تبقي الفعل وردة الفعل في العراق، لا إيران، فطهران تضرب أمريكا بميليشيات عراقية في العراق، وتريد من أمريكا الرد عليها في العراق لا إيران، وهو أمر يبعد إيران بالطبع عن التعرض لخسائر، ولكنه أيضا يمنح طهران ميزة لطالما لعبت عليها في المنطقة، وهي أن الميليشيات «زئبقية»، لا يمكن حصرها وضربها كأي هدف عسكري واضح لدولة كإيران، ولا تملك جسدا ماديا ثابتا يمكن بسهولة استهدافه والرد عليه.
من الواضح أن الامريكيين سيواصلون الرد على اهداف للميليشيات الشيعية واغتيال قادتها، ومن الواضح أيضا أن الطرف الآخر سيواصل التصعيد، وإن بطريقة حذرة، لإزعاج الامريكيين ودفعهم لاعلان جدول للانسحاب، وستبقى هذه المواجهات مستمرة في لعبة «عض أصابع» قد تتأثر في النهاية بمزاج ترامب المدعوم برؤية أمريكية تفضل الانسحاب من المنطقة ، «التي لم تعد تستحق اكثر من ذلك» مزيدا من الخسائر الامريكية، بحسب تعبير مارتن أنديك، في مقال له مؤخرا.
مع هذا التصعيد في العراق، يبدو أن ايرات اعتمدت على المواجهة غير مباشرة مع واشنطن، يمكن لإيران الاعتماد على القوات الحليفة لها في العراق ولبنان واليمن وأفغانستان لتوجيه الضربات للولايات المتحدة ومصالحها وقواعدها في البحرين والكويت وقطر والسعودية والامارات وغيرها، وفي العمق الإسرائيلي أيضا.
من بين الأهداف المتوقعة للمجموعات الشيعية الحليفة لإيران، استهداف قواعد ومعسكرات أمريكية في العراق، أو مهاجمة ناقلات نفط في الخليج العربي للولايات المتحدة أو للدول الحليفة لها.كما تمتلك إيران قدرات مؤكدة على اغلاق جزئي، أو كلي، لمضيق هرمز وتهديد حرية الملاحة البحرية وحركة مرور التجارة الدولية، بالإضافة إلى استهداف منشات النفط السعودية أو شن هجمات الكترونية، والى حد ما في الداخل الأمريكي.
وفي حال اندلعت مواجهات “مفتوحة” بين الولايات المتحدة وإيران فان احتمالات توقفها بعد عدد محدود من الردود المتبادلة، احتمال قائم يستجيب لرغبة طرفي الحرب.لكن ذلك لا يعني نهاية النزاع في المنطقة التي لابد ان القوات الحليفة لإيران ستواصل استهداف القوات والمصالح الامريكية في عموم المنطقة لعدة سنوات قد تنتهي بانسحاب النسبة الأكبر من القوات الامريكية من المنطقة.
واذا كان “الاستنزاف” هو السمة البارزة في النزاع بين الولايات المتحدة وإيران طيلة سنوات، فان المرحلة المقبلة ستشهد صراعا مفتوحا قد لا تكون إيران طرفا مباشرا فيها انما من خلال القوات الحليفة لها.
وتعتقد الولايات المتحدة ان اغتيال قاسم سليماني سيؤدي إلى تجنيب المنطقة المزيد من عدم الاستقرار الناجم عن نشاطات إيران والقوات الحليفة لها، لكن تلك العملية ستدخل المنطقة بلا شك في دوامة النزاع المسلح وعدم الاستقرار لسنوات قادمة، مع احتمالات خروج النزاع عن السيطرة.
واذا كانت الأراضي العراقية هي الجغرافية “الاكيدة” للنزاع الأكبر بين الولايات المتحدة وإيران، فان احتمالات اتساع جغرافية النزاع إلى الخليج العربي والسعودية تحديدا هو الاحتمال الأرجح في اطار حرب الوكالة التي ستخوضها القوات المحلية الحليفة لإيران ضمن مفهوم جديد باسم “المقاومة الدولية” ضد الولايات المتحدة والدول الحليفة لها.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية