الهلع من كورونا يوحّد البشرية بقدر ما يزرع الكراهية

الهلع من كورونا يوحّد البشرية بقدر ما يزرع الكراهية

قاد الهلع من فايروس كورونا إلى فرض نوع من المساواة بين دول العالم في سبيل التصدي له، وبات البعض يصفه بالوباء لكنه “وباء عادل” فهو لا يفرق بين غني وفقير ولا بين شخصية مشهورة تعتلي المنابر وتقف تحت الأضواء وأخرى تمشي على الأرصفة، باتت الدول على اختلاف خصوصية مجتمعاتها موحدة ولا هاجس غير القضاء على رعب كورونا.

هناك نوع من الأزياء الموحدة أو ما يُعرف بالـ“يونيفورم”، بدأت تظهر في شوارع المدن الغنية والفقيرة، على حد سواء.. هل هي “مساواة واشتراكية من نوع آخر” فرضتها حالات الهلع والرهاب، والعزم على التصدي لغول الكورونا العابر للقارات والأعراق والأجناس؟

اللقاءات الحميمية بين الأفراد غابت عنها القبلة والعناق، وبرزت تحيات تتجنب الاحتكاك المباشر وتراعي أخذ المسافة بين الطرفين فظهر نوع من “العولمة السلوكية”، يلغي الخصوصيات المجتمعية، حتى أنه ظهر إجماع على اعتماد “التحية التايلندية” المتمثلة في أن يلصق الواحد راحتي يديه، ويكتفي بحني الرأس قليلا أمام من يستقبله.

تناول الأطعمة والمشروبات في الأمكنة العامة، صار يخضع لضوابط صارمة يُلغى فيها تبادل الأنخاب وقرع الكؤوس والرقص الهادئ أو الصاخب على حلبات النوادي. أُلغيت التجمعات الاحتفالية وأعلن فايروس كورونا حالة الطوارئ مثل حكم عسكري جائر.

جل ما نخشاه أن تصبح هذه الإجراءات الاحتياطية الطارئة، سلوكا دائما حتى بعد زوال الوباء فتفقد البشرية ذاكرتها، ويمسي كرنفالا ريو دي جينيرو، والبندقية، نسيا منسيا.. أليس الطارئ والاحتياطي هما الأبقى دائما في عمر البشرية.. لنتفرس قليلا في أسباب إقامة برج إيفيل، وقوس النصر، على سبيل المثال؟

ليس من باب التفاؤل المفرط أن نقول إن فايروس كورونا سيرحل إلى غير رجعة، أسوة ببقية الأوبئة والأمراض كالطاعون وغيره، لكن طرق التحية والأكل والشرب، وغيرها من الاحتياطات التي رافقته، لن تنساها البشرية بسهولة.. وقد تخلد إلى الأبد.

المسألة تذكّر بطرفة يرويها أهالي دمشق منذ خمسينات القرن الماضي، وتتمثل في أن جدار مبنى مؤسسة حكومية قد صبغ بطلاء جديد، وكان على المسؤول البيروقراطي أن يحذر المراجعين من الطلاء فألصق لافتة كتب عليها بخط عريض “احذر الطلاء”.. جف الطلاء وظلت العبارة مثبتة على الجدار لسنوات عديدة، وبقي الناس يحذرون الطلاء الذي جف وبهت لونه.

الأوبئة والأمراض تخلف ثقافات أطول وأبقى منها، نفسها، ذلك أن المجموعات البشرية تصنع آليات دفاع تتوارثها الأجيال حتى بعد زوال تلك الآفات وأسبابها بدليل أن أشهر وأطيب الأطباق والوجبات اليوم، هي تلك التي ابتكرها أصحابها في سنوات العوز والمجاعة.

فايروس كورونا ساهم في لعبة الأواني المستطرقة، وكشف نيات كل الجهات، فكأنما الأوبئة السياسية والاجتماعية والثقافية، لا تنكشف إلا عبر الأوبئة الصحية

فايروس كورونا الذي يجتاح اليوم خمس قارات بأكملها، وأعلنته منظمة الصحة العالمية وباء، سوف يرحل ويختفي بفعل لقاحات وأدوية اخترعت أو ستخترع قريبا، لكنه لن يزول دون آثار وكدمات على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، لن تجد لها علاجا غير التعود عليها والتعايش معها.

لا وجود للقاح أو دواء يستهدف الذاكرة الإنسانية ويخلصها من التذكر وآليات التكيف كمنعكس شرطي على طريقة نظرية بافلوف، ولسوف يستمر الخائفون من كورونا بكماماتهم كما يحتفظ، اليوم، رجل من قبائل الطوارق بلثامه خشية من رمال الصحراء الكبرى، وهو يتجول في مدينة من مدن الشمال.

الهلع من هذا الوباء سوف يتحول إلى ثقافة تتسلل إلى أدق المسامات بل سيغدو، بعد أجيال، تقليدا احتفاليا يتضمنه فولكلور الدول المفجوعة الآن.. وسيقال غدا، فلان ولد أو تزوج أو ألف كتابه زمن الكورونا.

سيأتي من يفتعل القصص والأساطير والخرافات عن كورونا، بدليل أن أغنيات ومسرحيات وأفلاما تسجيلية وحتى روائية قد بدأت تظهر عن هذا الوباء، فما بالك بالذين سوف يزيفون التاريخ ويحاولون تزويره باسم كورونا.

الأسطورة تُصنع الآن.. كمامات وأقنعة وبدلات واقية، تتحرك في المحطات والمطارات والموانئ والمستشفيات. وجوه لا تكاد تظهر منها إلا عيون خائفة وقد غابت جميع التفاصيل التي يمكن أن تميز شخصا عن آخر، فكأنما نحن إزاء فيلم طويل من الرعب والألغاز والنهايات المفاجئة لشخصيات لا نتوقع قتلها في ظروف غامضة كما يحدث في الروايات البوليسية.

الكورونا لا تفرق بين غني وفقير، ولا بين شخصية مشهورة تعتلي المنابر وتقف تحت الأضواء، وأخرى تترجل في الزحام وتمشي على الأرصفة. وعلى ذكر هذه “المساواة”، تحدثت آخر الأنباء عن إصابة وزيرة المساواة الإسبانية بهذا الفايروس “العادل” في فتكه بجميع الناس. ها هو النجم العالمي توم مانكس، وزوجته يعلنان أنهما مصابان بفايروس كورونا فتتناقل وكالات الأنباء الخبر وكأنها تتحدث عن آخر أفلامه.

الكوميديا السوداء والسخرية اللاذعة لا تغيبان عن “المشهد الكوروني”، وكذلك التصريحات المتخبطة والمواقف المرتجلة من قبل السياسيين والأفاقين على حد سواء، فهذا البرلمان التونسي يتغيب أعضاؤه عن حضور الجلسة الخاصة بكورونا، خشية من كورونا، وتلك دار الإفتاء في نفس البلد، تعتذر عن استقبال الأجانب الذين ينوون إعلان إسلامهم بسبب عدوى هذا الفايروس القاتل.

وعلى الصعيد الاجتماعي، عجت مواقع التواصل بنكت وطرائف تعكس المفارقات، وتكشف المغالطات بفضل كورونا، مثل الفتاة التي طلبت من الصيدلاني كمامة من لون حقيبتها، وهو ما يقيم الدليل على أن ثقافات الشعوب لا تنعكس ولا تنكشف إلا أثناء الأزمات.

نظرية المؤامرة حضرت بقوة في زمن الكورونا، وذهبت إلى أقصى ما يمكن أن يتخيله المنطق، لكن ما يبرر كل هذا التهافت ويعطيه مشروعيته، هو تزامن هذا الوباء مع حدة صراعات إقليمية ودولية حول قضايا اقتصادية، بالإضافة إلى مافيا صناعة الأوبئة واحتكار الأدوية.

الإسلام السياسي أدلى بدلوه، ولم يغب عن ركوب موجة الكورونا مستخدما كل أنواع التحشيد والتأليب مثل القول إن الوباء جاء عقابا إلهيا بسبب معاملة السلطات الصينية لمسلمي الأيغور. أما المزايدة الأكثر مكرا واصطيادا في المياه الآسنة فهو مطالبة أحد نواب حركة النهضة الحكومة في تونس بأن توجه الميزانيات المعتمدة للأنشطة الثقافية إلى وزارة الصحة التي يمسك حزبه بحقيبتها، وذلك في نوع من الازدراء المبطن للثقافة والمثقفين، وكأنهم هم الذين يجب عليهم أن يتولوا وحدهم التصدي لفايروس كورونا.

فايروس كورونا ساهم في لعبة الأواني المستطرقة، وكشف عن جميع النوايا من طرف كل الجهات، فكأنما الأوبئة السياسية والاجتماعية والثقافية، لا تنكشف إلا عبر الأوبئة الصحية.

العرب