منذ بداية الأزمة السورية في مارس (آذار) عام 2011، تعامل النظام الإيراني مع الحدث من منطلق التحدي الوجودي لدوره في منطقة الشرق الأوسط والتي تتعدى انعكاساتها لتطال كل منطقة غرب آسيا، لذلك كان في طليعة الأطراف الإقليمية والدولية التي دخلت على خط التورط في هذه الأزمة مباشرة، انطلاقاً من إحساسه بالخطر الذي يهدد مشروعه في تكريس المحور الذي يقوده في الإقليم، والذي يبدأ من طهران ويمر في بغداد ويعبر دمشق ليصل إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط في لبنان وفلسطين.
وتعتبر الساحة السورية المجال الحيوي الأهم في استراتيجية النظام الإيراني في الإقليم، وبخاصة بعد عام 2003 وسقوط النظام العراقي، إذ انتقلت العلاقة بين طهران ودمشق من مرحلة الحاجة الإيرانية في عهد الرئيس حافظ الأسد إلى مرحلة الحاجة السورية في عهد الرئيس بشار الأسد، وبعد أن كان الأسد الأب يوظف العلاقة بينه وبين النظام الإيراني في إطار الاستيعاب واحتواء المخاوف العربية من الطموحات الإيرانية، أصبحت العلاقة مع دمشق أداة في يد طهران للوصول إلى العمق العربي ومصدر قلق وتهديد لنظام المصلحة العربية الذي بُذلت جهود كبيرة لإرسائه مع قمة الإسكندرية الثلاثية بين العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس المصري الراحل حسني مبارك والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.
لا شك أن النظام الإيراني عمل على بناء رؤيته الاستراتيجية في المنطقة العربية وداخل منظومة الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفسلطينية بكثير من “الصبر الإيراني” المعروف، وقد عمل على عرقلة وإفشال كل المحاولات الدولية والإقليمية في بلورة عملية سلام إقليمي منذ عام 1992 ومؤتمر مدريد، وقد تعزز هذا التوجه لدى طهران بعد الاحتلال الأميركي للعراق وما نتج عنه من إزاحة عقبة أمام تمدد هذا النفوذ وتشكيل ما بات يعرف بمحور المقاومة أو “الهلال الشيعي أو الإيراني”، حسب التمسية التي أطلقها العاهل الأردني عبد الله الثاني مبكراً، مستفيداً من مخاوف سورية بإمكانية أن تكون أي عملية سلام على حساب موقع ودور دمشق ونظامها في المنظومة الإقليمية والعربية، الأمر الذي عزز اللجوء السوري إلى الحضن الإيراني.
وإذا ما كان النظام السوري قد استطاع تأطير ضرورات تعميق العلاقة مع طهران بما لا يتعارض مع مصالحه في لبنان وفلسطين واستثمارها بالعلاقة مع المجتمعين العربي والدولي، وتوظيف حاجة طهران للساحة السورية بما هي واسطة اتصال وتواصل مع الساحة اللبنانية والفلسطينية، فإن اندلاع الأزمة السورية وخصوصاً التحول الذي شهده عام 2013 إن كان في المشهد الداخلي بعد معركة القصير أو الإقليمي بعد سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر، قد نقل العلاقة بينهما إلى مستوى جديد سمح بتوسيع دائرة التأثير الإيراني وحتى حليفه “حزب الله” على قرار النظام السوري، ما سمح لطهران بتسريع وترسيخ ما كانت تطمح إليه بتحويل الساحة السورية إلى منصة لمخاطبة القوى الدولية المؤثرة، خصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل على طريق تثبيت دورها ونفوذها وشراكتها في الشرق الأوسط.
يمكن القول إن النظام الإيراني وحليفه اللبناني خصوصاً، استطاع تحقيق الجزء الاستراتيجي الأكبر من مشروعه في الشرق الأوسط وداخل معادلة الصراع العربي الإسرائيلي بما هي صراع مع واشنطن، مستفيداً من الحماية الواسعة التي قدمها للنظام السوري وتثبيته ومساعدته على استعادة السيطرة على معظم الأراضي التي خرجت من سلطته لصالح فصائل المعارضة بكل تنويعاتها، وأسهم بكشل كبير في تثبيت معادلة وحدة الأراضي السورية وحشد المواقف الدولية لصالح هذه المعادلة حتى لدى الشريك الروسي الذي دخل في المعركة بتأثير إيراني واضح، إضافة إلى الرؤية الاستراتيجية في الحفاظ على مواقع نفوذه على شواطئ المتوسط وعلى المياه الدافئة.
ومن ثم فقد حوَّل المساعدة العسكرية للنظام السوري إلى واقع سياسي واستراتيحي يطمح لتوظيفها في أي تسوية دولية خاصة بالإقليم والصراع مع إسرائيل من خلال ضم الشريط الحدودي السوري مع الأراضي المحتلة في مرتفعات الجولان إلى دائرة نفوذه عبر “حزب الله” على امتداد الحدود اللبنانية الفلسطينية وتحكمه بقرار الحرب والسلم على طول هاتين الحدودين، في محاولة لتوجيه رسالة إلى واشنطن وتل أبيب بأن الأمن والسلام الإسرائيليين لا يمكن أن يتحققا من دون التفاهم مع طهران باعتبارها القوة الإقليمية الأقوى التي تمتلك القدرة على خوض الحرب والأقدر على صنع السلام، الأمر الذي يفتح الطريق أمام تكريس دورها ونفوذها كشريك إقليمي يسيطر على قرارات محور يبدأ في طهران ويمر في بغداد ويشمل دمشق وبيروت وغزة والفصائل الفلسطينية التي تدور في فلكه، وأن أي تسوية لا تمر أو تأخذ بعين الاعتبار المصالح الإيرانية لا يمكن أن تمر أو تسمح بها طهران وحلفاؤها.
ويبدو أن الدخول الروسي المباشر على خط الأزمة السورية، قد لا يتعارض مع الطموحات الإيرانية وإن كانت موسكو تطمح بالتفرد بالساحة السورية وتقليص الدور والتأثير الإيراني في سوريا، إلا أنها كانت واضحة في تفاهماتها مع طهران حول استراتيجية التعاون الثنائي على الساحة السورية، خصوصاً ما تعتبره مسلمات تنطلق من خصوصيات روسية تلتزم عدم المساس بالأمن الإسرائيلي وعدم السماح بفتح جبهة عسكرية من الأراضي السورية ضد الجيش الإسرائيلي، وهو ما وافقت عليه طهران التي لا ترغب في دخول هذا النفق الذي قد يشكل تهديداً حقيقياً لطموحاتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
من هنا، يمكن القول إن الوجودين الإيراني والروسي على الساحة السورية، قد يفترقان في بعض التفاصيل، إلا أنهما يتفقان في الكثير من الأهداف، خصوصاً في المصالح الاستراتيجية، وهذا لا يعني أن لا تسعى موسكو لاستغلال أي فرصة ممكنة قد تساعدها في تحجيم الدور الإيراني، في حين أن طهران تقدر الحاجة الروسية لتعزيز وجودها في المنطقة، وعليه فإنها تحاول الابتعاد عن مساحات التصادم مع اللاعب الروسي، طالما أن مصالحها لا تتعرض لأي خطر، وتعمل على توظيف هذا النفوذ والدور في تعزيز أوراقها على طاولة التفاوض مع واشنطن.
في المقابل، وأمام الجهود الإيرانية والروسية في ترتيب الساحة السورية وتحجيم الأدوار الطامحة للحصول على حصة من الكعكة السورية كتركيا تمهيداً للانتقال إلى الحل السياسي، يبدو أن واشنطن غير متعجلة في هذا الانتقال وحولت وجودها وانتشار قواتها في منطقة شرقي الفرات إلى ربط نزاع لفرض شروطها على الحل السياسي.
حسن فحص
اندبدنت العربي