بعد مرور حوالى 32 عاماً على نهاية الحرب العراقية الإيرانية، لا يزال بعض سكان إقليم كردستان في العراق، يطلقون صفة “الشهيدة” على مدينة حلبجة، التي تعرضت لقصف كيماوي أسفر عن موت الآلاف من أبنائها. حلبجة، هي منطقة تابعة لمدينة السليمانية في الجزء الشمالي الشرقي من العراق، حيث تقع بالقرب من حدود البلاد مع إيران، لذلك كانت تجربتها مع الحرب العراقية الإيرانية مختلفة، لكنها انتهت بمأساة.
في الأشهر الأخيرة للحرب، تمكن الإيرانيون من اقتحام الحدود العراقية، والوصول إلى حلبجة واحتلالها، وبينما قالت طهران إنّها حققت انتصاراً كبيراً في المعركة، وجهت بغداد اتهامات مبطنة لسكان هذه المدينة الكردية بتسهيل مهمة الإيرانيين. ولا تزال هذه الاتهامات تشكل جزءًا من جدل مستمر، بشأن حقيقتها فعلاً، وما إذا كان ثبوتها يبرّر للنظام العراقي استخدام السلاح الكيماوي.
لم يكن مرور كل هذا الوقت كافياً لحسم النزاع بشأن الطرف المتورط في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد حلبجة، فالقوات الإيرانية التي كانت تحتلها قبيل الهجوم الكيماوي تقهقرت إلى الخلف بفعل ضغط القوات العراقية، فصار مركز المدينة في وسط “الأرض الحرام” التي يسقط فيها معظم ما يطلقه المتقاتلان على بعضهما البعض.
ودارت هذه العمليات العسكرية يومي 16 و17 مارس (آذار) عام 1988، وكانت إحدى التطورات الرئيسة التي أدت إلى إنهاء الحرب العراقية الإيرانية بعد قتال مدمر دام ثماني سنوات، وخلّف خسائر بشرية ومادية كبيرة.
وقُتل خلال القصف الكيماوي على حلبجة، حوالى خمسة آلاف مواطن كردي من العراق، وتوفي بعد ذلك حوالى 10 آلاف شخص، بسبب المضاعفات التي تركها هذا السلاح المحظور دولياً، وعانت المدينة من آثار بيئية مدمرة، يستمر بعضها حتى الوقت الراهن.
الرواية الشائعة التي تتوفر على أدلة أكثر ولديها أنصار كثر، تقول إن القوات العراقية أرادت استعادة حلبجة بأي شكل من الأشكال من القوات الإيرانية، لا سيما مع ازدياد المؤشرات إلى أنّ عام 1988 قد يكون عام نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ما يتطلّب من كل بلد تسريع عمليات استعادة الأراضي التي يحتلها البلد الآخر على الشريط الحدودي البالغ طوله 1458 كيلومتراً.
ووفقاً لهذه الرواية، فقد اندفعت القوات العراقية نحو حلبجة في 16 مارس، وعندما انسحبت القوات الإيرانية منها، تعرضت لوابل من قنابل مزودة بغاز كيماوي قاتل. ويدعم سكان إقليم كردستان وقيادته السياسية وإيران، ولاحقاً الجانب الأكبر من المجتمع الدولي، هذه الرواية، لكنّ هناك طرفاً واحداً في الأقل يتبنى رواية أخرى.
رواية مضادة
وتشير رواية الطرف الآخر إلى أن القوات الإيرانية هي من هاجم هذه المنطقة بالسلاح الكيماوي، بعدما اضطُرت إلى الانسحاب منها تحت ضغط القوات العراقية. وتستند هذه الرواية إلى ما تقول إنّها إصابات تعرّض لها جنود عراقيون بالسلاح الكيماوي خلال القصف الإيراني لحلبجة.
وكان نظام صدام حسين يتبنى هذه الرواية حتى تفكيكه على أيدي الأميركيين عام 2003. وحتى بعد ذلك، بقيت هذه الرواية موجودة لدى وسائل الإعلام العراقية المناهضة لإيران، لكنّ وقائع الحرب العراقية الإيرانية في أعوامها الثلاثة الأخيرة، كانت تشير إلى أن الهجوم الكيماوي على حلبجة لم يكن عملاً منفرداً، بل هو جزء من استراتيجية بغداد لمعادلة الميزان العسكري الذي بات يميل إلى طهران أكثر، بفعل قدرتها على توفير حشود بشرية لخوض المعارك البرية، لا يملكها العراق.
علي كيماوي
وترتبط مأساة حلبجة في الذهنية الكردية بأحد أكثر المسؤولين دموية في نظام صدام، وهو قريبه علي حسن المجيد، الذي كان وزيراً للدفاع، ولكثرة ارتباط اسمه بالهجمات الكيماوي، أطلق أكراد العراق لقبَيْ “علي كيماوي” و”علي حسن المبيد” بدلاً من المجيد، على الوزير العراقي. وفي ما بعد، انتقل اللقبان إلى الاستخدام في مدن العراق الأخرى.
وترى القيادة السياسية التي تدير إقليم كردستان العراق حالياً إن الهجوم الكيماوي على حلبجة هو أحد أخطر الجرائم في التاريخ، مشيرةً إلى أن العالم تأخر في الاعتراف بأنّ “نظام صدام ارتكب هذه الجريمة ضد الشعب الكردي”.
الاستخدام السياسي
ولا تزال الأحزاب السياسية في إقليم كردستان، تستعمل ذكرى حلبجة لتذكير بغداد بالجرائم التي تعرّض لها الشعب الكردي في العراق على يد نظام الرئيس الراحل صدام حسين. وكل عام في 16 مارس، تشهد مدن إقليم كردستان الثلاثة، أربيل والسليمانية ودهوك، وأجزاء من مدينتي كركوك والموصل، فعاليات رسمية وشعبية، لاستذكار المجزرة، والمطالبة بضرورة تعويض ضحاياها وتخليد ذكراهم.
لا يتعلّق التذكير الكردي السنوي بحلبجة بالتاريخ فقط، بل بالمستقبل أيضاً، فمأساة هذه المدينة، هي ركن أساس في السردية الكردية، التي تقوم الآن على ضرورة تجنب مثل هذا النوع من الأخطاء في تعاطي الحكومة المركزية مع التنوع الذي يتضمنه النسيج العراقي، دينياً ومذهبياً وقومياً.
محمد ناجي
اندبندت عربي