يبدو الشرق الأوسط في مرجل شديد الغليان! إيران، العراق، سورية، لبنان، فلسطين، تركيا.. وأميركا. حروب أو استفزازات، كل الساحات مفتوحة بين بعضها وعلى بعضها. والحسابات مفتوحة أيضا. من يريد أن يرفع الضغط عنه، ومن يريد أن يمارس الضغط على الآخر، أو من يريد أن يحاصر الآخرين. فيما وباء فيروس كورونا يهدد الجميع، ويحد من قدرتهم على المناورة. وقد بدأت آثار الوباء السلبية تفرض نفسها على الصعيدين، الاقتصادي والاجتماعي، على كل دول المنطقة، ولكن إيران هي الحلقة الأضعف، والأقل قدرة على المواجهة، نتيجة العقوبات الأميركية المفروضة على اقتصادها منذ سنوات.
تشارك إيران ومليشياتها في معارك إدلب في شمال سورية، في مواجهة تركيا وبتغطية روسية، وتنتهي المعركة مؤقتا بخاسر أساسي هو إيران التي تتكبد مليشياتها التي تقاتل إلى جانب النظام الأسدي، وتحديدا حزب الله اللبناني، عشرات القتلى، من دون أن يظهر الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في الصورة، في لقاء موسكو، إلى جانب الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان. علما أن طهران هي الطرف الثالث الذي وقع على اتفاق سوتشي وقبله أستانة. بعدها بأيام، تقوم المليشيات العراقية المعقود ولاؤها لإيران، بإطلاق صواريخ على قاعدة التاجي العسكرية للتحالف الدولي في بغداد، ويسقط جنديان أميركيان وثالث بريطاني. يعطي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الضوء الأخضر للقوات الأميركية بالرد بقصف مواقع “الحشد الشعبي” العراقي في منطقة البوكمال، على الحدود العراقية – السورية، ثم على مليشيا كتائب حزب الله العراقي في أكثر من منطقة من العراق، ويقع عشرات القتلى. وبعد يومين، تسارع إحدى المليشيات إلى الرد بقصف قاعدة التاجي مجددا بالصواريخ، من دون أن يعلن أي طرف عراقي مسؤوليته. وينعكس الأمر سياسيا بالشلل القائم منذ أشهر، وعجز القوى السياسية العراقية عن التوصل إلى اتفاق بشأن اختيار رئيس حكومة جديد. وقد تسلل الخلاف إلى داخل صفوف القوى الشيعية نفسها نتيجة الضغط الأميركي، وإنما خصوصا نتيجة ضغط الشارع العراقي المنتفض منذ نحو ستة أشهر، والذي فرض نفسه لاعبا أساسيا في معادلة السلطة. ثم جاء إعلان قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال كينيث ماكينزي، أن الولايات المتحدة سترسل، خلال
“من شأن أي خطوة استفزازية أو غير محسوبة أن تؤدي إلى حرب أو تدفع إلى مواجهةٍ يصعب ضبطها”أيام، أنظمة الدفاع الجوي المؤلفة من صواريخ باتريوت إلى العراق لحمايته من أي هجوم إيراني محتمل. تضاف إليها الغارات الإسرائيلية المتواصلة التي تستهدف المواقع الإيرانية في سورية والمليشيات التابعة لها، وتحديدا حزب الله. وفي الأسبوع الماضي، دخلت حاملة الطائرات الأميركية، أيزنهاور، ومجموعة القطع البحرية المرافقة لها إلى البحر الأحمر عبر قناة السويس، وأجرت مناورات مشتركة مع حاملة الطائرات الفرنسية، ديغول، التي وصلت إلى المنطقة. كما وأعلنت وزارة الدفاع (البنتاغون) أن وزير الدفاع، مارك إسبر، وافق على نشر ثلاثة آلاف جندي إضافي ومعدات عسكرية، بينها صواريخ باتريوت ومنظومة ثاد في السعودية لتعزير قدرات المملكة في مواجهات التوترات الاقليمية، أي الإيرانية.
هل هي طبول الحرب تقرع أم أنها عمليات استنزاف، واختبار لمن نَفسُه أشد وصبره أطول؟ بدأت المواجهة مع اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، وتتوالى فصولا. هل لإحراج ترامب وجرّه إلى مواجهة عسكرية، عشية الانصراف إلى حملة الانتخابات الرئاسية، أم لحرف الأنظار عن فيروس كورونا الذي تحول إلى مأساة للشعب الإيراني، ما دفع المقرّب من خامنئي، علي رضا بناهيان، إلى تبشير الإيرانيين بأن تفشي كورونا مقدمة “تسرّع” في ظهور الإمام المهدي المنتظر(!)
ربما يجب الانتباه إلى تطوّر لافت، في ناحية أخرى ليست بعيدة جدا في المقياس الجيوسياسي عن المنطقة ولاعبيها، وهي إعلان الجيش الأميركي بدء الانسحاب من أفغانستان، تنفيذا لاتفاق السلام الذي أبرمته الإدارة الأميركية مع حركة طالبان في الدوحة، والذي ينص على خفض عدد أفراده في غضون 135 يوما إلى 8600 جندي. ويتزامن إعلان بدء الانسحاب مع اندلاع الصراع الداخلي على الرئاسة بين الرئيس الذي أعيد انتخابه، أشرف غني، ومنافسه عبد الله عبد الله، إذ أدّى كل منهما اليمين الدستورية لرئاسة أفغانستان، في مراسم منفصلة، فهل أفغانستان ذاهبة إلى جولات جديدة من المواجهات الداخلية بين القوى السياسية والمسلحة، وكذلك مع “طالبان”، الطرف الأقوى على الساحة الأفغانية، خصوصا بعد توقيع الحركة الاتفاق مع واشنطن؟ سيربك هذا الوضع المستجد إيران التي تتشارك مع أفغانستان بحدود طويلة ومعقدة، ناهيك عن التباين العقائدي بين “طالبان” ونظام ولاية الفقيه في ايران. في المقابل، تعتمد إيران بشكلٍ كبير في سورية والعراق على المليشيات الشيعية الأفغانية والباكستانية لمقاتلة فصائل المعارضة السورية والقوات التركية والأميركية، ما يعني أنها سوف تضطر ربما إلى سحبها والالتفات إلى الساحة الأفغانية لحماية حدودها الشرقية، أو الانخراط في صراعٍ دموي مع حركة طالبان التي فشلت الولايات المتحدة نفسها في تطويعها.
وما يزيد في حدّة التوتر، المواجهة التي حصلت بين الدول المنتجة للنفط، وتحديدا بين السعودية
“ما يزيد في حدّة التوتر، المواجهة التي حصلت بين الدول المنتجة للنفط، وتحديدا بين السعودية وروسيا”وروسيا التي رفضت تخفيض الإنتاج أو التجاوب مع طلب منظمة أوبك، ما دفع المملكة إلى زيادة إنتاجها، وخفض أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة، بلغت نسبة 30%. وستترك هذه الخطوة آثارها السلبية على اقتصاد الدول المنتجة، وخصوصا روسيا التي تصر على رفع إنتاجها، لأن الأولوية بالنسبة للرئيس بوتين هي الرد على صناعة النفط الصخري في تكساس، وعلى العقوبات الأميركية المفروضة على خط نقل الغاز الروسي نحو أوروبا. وكذلك إيران التي هي في أمس الحاجة لبيع ما أمكن من النفط، لتغطية حاجتها وتعويض الضغط الأميركي المتزايد والخانق، من جراء العقوبات المفروضة عليها. تقابلها إعادة ترميم العلاقات الأميركية –التركية، وكذلك بين تركيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعد معارك إدلب بين القوات التركية وكتائب الأسد والمليشيات التابعة لإيران.
ما يمكن أن يخفف من الاندفاعة الأميركية هو تصديق الكونغرس على قرار يحدّ من قدرة ترامب على شن حرب، في ما لو أراد، على إيران، إذ إنه يلغي القرار الصادر عام 2002 الذي يسمح للرئيس بشن عمليات عسكربة بدون موافقة الكونغرس، يربط أي عمل عسكري ضد إيران تحديدا بموافقة الكونغرس. وقد أبدى ترامب امتعاضه من القرار بالقول: “نقوم بعمل جيد جدا مع إيران، وهذا ليس الوقت المناسب لإظهار أي ضعف”.
تعيش المنطقة إذاً على صفيح ساخن، والأجواء تبدو ملبدة وشديدة التوتر. ومن شأن أي خطوة استفزازية أو غير محسوبة أن تؤدي إلى حرب أو تدفع إلى مواجهةٍ يصعب ضبطها، وخصوصا أن إيران تشعر اليوم أنها محاصرة من كل الجهات، بما فيهم بعض الحلفاء، وتحديدا روسيا التي تتوجس طهران من أنها تتواطأ مع واشنطن على وجودها ودورها في سورية. وهذا الشعور ممكن أن يدفعها إلى المغامرة في عملية هروب إلى الأمام، كانعكاس للعقل الأيديولوجي الديني والشمولي الذي يعتبر أن تقديم أي تنازل أو الذهاب إلى تسوية بمثابة استسلام أمام “الشيطان الأكبر”.
سعد كيوان
العربي الجديد