خلق انتشار جائحة كوفيد 19 في كافة أنحاء العالم حالة غير مسبوقة من الهلع ودفعت الحكومات إلى إقرار إجراءات تتجاوز ما يحصل في الحروب حيث يخضع أكثر من 500 مليون شخص للحجر الصحّي والعزل، وتقفل حدود دول العالم في أغلب القارّات، وتتوقف الرحلات الجوية والبرية والبحرية، وتتقطع السبل بالمسافرين العالقين في بلدان أخرى، وتهبط البورصات، وتغلق مئات آلاف الشركات والمعامل أبوابها، وتحاول سلطات دول عظمى منع انهيار اقتصادات بلدانها باتخاذ قرارات ماليّة مذهلة بحجمها في الوقت الذي تقترب فيه بلدان فقيرة أو تعاني من حروب أهليّة من شفا هاوية سوداء لا أحد يعلم حدودها الكارثية على سكانها.
من أهم ما كشفته هذه الظاهرة أن البشرية صارت مترابطة بشكل لا يمكن فصمه، وأن الحدود الطبيعية أو المتخيّلة، وأفكار الناس عن جنسيّاتها وقوميّاتها وأعراقها، لا تستقيم من دون رؤية الجامع الذي يجمع الإنسانيّة ويجعل المخاطر التي تتهدد أمّة ما أمرا يخصّ كل أمم الأرض، كما أن الخير الذي يعمّ على بلد ما يصل، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إلى بلدان أخرى، وهي قضيّة تكشف بؤس الأيديولوجيات العنصرية وكون أنظمة الاحتلال والاستبداد عاملا مهددا لعموم الناس وليس لشعب بعينه فحسب.
تقترح هذه الأوضاع الاستثنائية التي تكشف ما يوحد الإنسانية في الخير والمخاطر مراجعة شاملة لطرق رؤية وتعامل الساسة مع شؤون بلدانهم وكذلك طريقة تعاملهم مع البلدان الأخرى، وقد انتبهت الشعوب التي تعاني من أشكال الظلم والحجر والعزل والحصار إلى هذه الناحية، ويفترض بالشعوب المستجدة في تعرضها لأنواع الحجر المفروض أو التطوّعي أن تفكّر بغيرها من الشعوب التي لا يد لها في ما تعانيه من قهر وبطش وحصار.
يكذّب ما نراه من سلوك كثير من ساسة العالم تفاؤلنا بإمكانية تغيّر رؤيتهم أو سلوكهم لكن الأغرب من ذلك أن بعضهم استخدم الجائحة الكبيرة التي تجتاح سكان الأرض كفرصة لمزيد من التسلّط والتمسّك بالمنصب وصبّ الزيت على نار العنصريّة واستهداف الشعوب والخصوم السياسيين.
من أوائل من استخدم وباء كورونا المستجد لتعزيز وضعه السياسي كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي خرج ديمتري بيسكوف الناطق باسمه الخميس الماضي ليقول إنه بسبب «عدم الاستقرار» وكورونا فمن المناسب إعطاء الرئيس إمكانية مواصلة أداء وظائفه عبر تعديل دستوري سمح له بالبقاء في السلطة حتى عام 2036.
استغل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موضوع كورونا بدوره لتعزيز سياسته المعلومة مع الصين وكذلك لتأكيد برنامج إغلاق الولايات المتحدة الأمريكية ضد الآخرين وبناء سور مع المكسيك، فقد تابع، في القضية الأولى، ربط الفيروس المنتشر بالصين بتسميته مرارا وتكرارا «الفيروس الصيني» (إضافة إلى التسمية الساخرة «كونغ فلو» التي تستخدم بين موظفي البيت الأبيض)، ومن الواضح أن ترامب سيوظّف، بطريقته الشعبوية، قضية الوباء ضمن أجندته الموسعة المعادية للمهاجرين واللاجئين.
إضافة إلى المذكورين، فقد استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدوره قضية كورونا بالمزاودة فيها، جنبا إلى جنب، مع القرارات الخطيرة التي يقترحها على الكنيست مثل ضم الغور وإعدام الأسرى الفلسطينيين، وهو ما ساهم، حتى الآن، في صد محاولات خصمه السياسي بيني غانتس في التمكن من تشكيل حكومة.
يضاف إلى هؤلاء رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان، الذي أصبح علما بدوره على العمل على تشويه النظام الديمقراطي وتحويله إلى نظام تسلّطي، مستخدما بدوره دعايته الخبيثة ضد الإسلام والمهاجرين عموما، وكان من بين الأوائل الذين ربطوا بين قدوم فيروس كورونا واللاجئين، في تجاهل بائس لانتشار الوباء في جميع أنحاء المعمورة وتحوّل أوروبا نفسها إلى مركز عالميّ لتفشي المرض.
القدس العربي