هل تقود الصين إلى عالم أكثر توازنا بوجه الرأسمالية المتوحشة

هل تقود الصين إلى عالم أكثر توازنا بوجه الرأسمالية المتوحشة

يسود تفاؤل بين الباحثين والخبراء بمرحلة ما بعد كورونا بشأن انكفاء الرأسمالية المتوحشة وصعود رأسمالية جديدة، “مؤنسنة” وأقل جشعا، اعتمادا على سلوكات صينية وروسية داعمة لدول مثل إيطاليا في مواجهة محنة الفايروس القاتل في الوقت الذي أدار الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الظهر لإيطاليا بالرغم من اتفاقيات الوحدة المشتركة وعضوية الناتو.

وليس هناك شك في أن السلوك الأخلاقي القيمي في الرأسمالية ليس سوى طعم لجذب المزيد من المكاسب وساحات الاستغلال، وأن الصين، التي تعد الآن ثاني قوة رأسمالية بعد الولايات المتحدة، قياسا إلى قوة الإنتاج، تحاول الاستفادة من مخلفات كورونا لبسط نفوذها الرأسمالي التوسعي في ساحات جديدة، وأنها ربما تلجأ إلى التسويق الأخلاقي لتحقيق ذلك من خلال تزويد دول متضررة مثل إيطاليا.

وقد نتوقع ولادة رأسمالية جديدة من رحم رأسمالية ما قبل كورونا، وأنها قد تعمد إلى تغيير أداء أدواتها وأشكال نفوذها بحثا عن مقبولية أخلاقية تعبّد أمامها طريق التوريث، لكن جوهر الرأسمالية القائم على الجشع ومراكمة الربح وافتعال الحروب والأزمات (الأزمة المالية 2008) والجوائح (كورونا 2020) سيظل هو نفسه وإن تنوعت أشكال ظهوره وتسويقه.

ولا يمكن أن نغفل التساؤلات الجدية بشأن فرضية دور الصين في إنتاج الفايروس لتحدي الرأسمالية المضادة المتمركزة في الغرب واختبار قدرتها على الخروج من الأزمة، وهو ما كشفت عنه تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعددة، والتي لا تخفي انسياقه وراء لعبة التحدي.

وباتت الاتهامات الأميركية للصين علنا بعد أن أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الأربعاء أن الدول الأعضاء في مجموعة السبع تدرك أن الصين مارست “حملة تضليل متعمدة” في ما يتصل بكورونا، وأن “الحزب الشيوعي الصيني يشكل تهديدا كبيرا لصحتنا وأسلوب عيشنا، وهذا ما أثبته الوباء بوضوح”.

إن الرأسمالية المتمركزة في الشرق، والتي تقودها الصين لعبت في البدء دور الوكيل المحلي للرأسمالية الأم من خلال القبول بالصناعات الثقيلة مقابل تخصّص الغرب في صناعة الذكاء، قبل أن تتحول الصين (وبقية دول شرق آسيا) إلى مركز لصناعة الذكاء وتسويقه، ويتّسع أفقها إلى المنافسة بأدوات أكثر ليونة وجذبا لدول العالم، خاصة العالم الثالث، الباحثة عن بديل يكسر نفوذ الرأسمالية المتوحشة.

لكن هل ستكون الرأسمالية الصينية “اللينة” نقيضا للرأسمالية الغربية المتوحشة، وهل يمكن أن تقود إلى بناء رأسمالية مناقضة جذريا وبمقومات جديدة وأدوات مغايرة لنفوذ الصناديق المالية الدولية المهيمنة (صندوق النقد والبنك الدولي)، وهل يمكن أن تقود مسارا دوليا يقوم على التضامن؟

رأسمالية التمدد

تراهن الرأسمالية الغربية على مركزة الثروة في دائرة مضيقة سواء على مستوى نفوذ الشركات العابرة، أو على مستوى الوكلاء المحليين، لكن الصين تنظر إلى الأمر من زاوية مغايرة تقوم في الداخل على توسيع دائرة المستفيدين من الإنتاج محكومة بوجود جهاز قوي للدولة وبمخلفات مشاعر اشتراكية كانت تنظر دائما إلى مركزة القرار السياسي وتوسيع دائرة المكاسب لتطول أغلب فئات المجتمع.

ويعتبر المؤرخ راينر زيتلمان أن تطور الصين في العقود الأخيرة يدل على أن النمو الاقتصادي المتزايد، حتى لو كان مصحوبا بتزايد عدم المساواة، يفيد غالبية السكان، حيث بات مئات الملايين من الناس في الصين أفضل حالا اليوم كنتيجة مباشرة لشعار دنغ “اسمح لبعض الناس بالثراء أولا”.

وعلى مستوى التمدد الخارجي، فإن الرأسمالية الصينية تؤسس لنفوذ أفقي عبر ما بات يعرف بـ”مصيدة الدين”، وهي تقوم على تشجيع الدول خاصة في الدول النامية في قارة أفريقيا والشرق الأوسط على الحصول على قروض تبدو ميسرة وسهلة ودون شروط مسبقة وقاسية بشأن إصلاحات هيكلية أو فرض التقشف وتقليص هامش الدعم الذي تأمر به الرأسمالية التقليدية التي تتحكم في كل مفاصل الاقتصاد التابع.

ولا تطلب الصين مقابل القروض الميسرة سوى ضمانات قوية باستعادة أموالها، وهي تقدمها في شكل قروض دولة ودون صناديق مالية زاجرة، ما يجعل الدولة الصينية هي المخاطب الوحيد، ولا يحتاج إلى تدخل من دولة مثل الولايات المتحدة للحصول على ضوء أخضر مشروط بالتزامات سياسية أو رهن قطاعات إنتاج مثل النفط أو المعادن مقابل القرض.

وفي سبتمبر 2018، عرض الرئيس الصيني شي جين بينغ تمويلا لأفريقيا بقيمة تصل إلى 60 مليار دولار وشطب جزءا من ديون الدول الأكثر فقرا في القارة، محذرا من توجيه التمويل إلى ”مشروعات عديمة الجدوى“، وهو ضابط مهم لضمان استعادة الديون، وليس شرطا مرتبطا بمواءمة الاقتصاد التابع لحاجيات الرأسمالية الغربية، التي تضغط لتظل الاقتصاديات النامية اقتصاديات استهلاكية وتسمح برواج نماذج هشة لاقتصاديات محلية تقوم على السياحة وإحياء التراث.

وتبدو الرأسمالية الصاعدة من الشرق باحثة عن أدوات جديدة للمزاحمة وملء فراغ التراجع الذي تبديه الرأسمالية المقابلة في التعاطي مع أزمة كورونا، لكنها لم تنجح بعد في خلق الآليات والتكتلات الضرورية القادرة على مزاحمة الصناديق المالية الدولية أو تكتل قمة العشرين وقمة السبع الكبار، وهي أحزمة قوية ما تزال إلى الآن تتحكم في مسارات الاقتصاد العالمي زمن الرخاء وزمن الأزمات.

وفضلا عن إغراق أفريقيا في مصيدة الديون الميسرة ورهن اقتصادياتها، فإن الصين لم تعد في صورة الفارس القادم من الشرق، فقد بدأت أفريقيا تشعر بثقل نفوذ بكين ما يخرجها من دائرة الصديق المنقذ إلى دائرة الدائن الضاغط على الأنفاس في دول ما تزال تتلمس طريق التنمية وتعيش أوضاعا اجتماعية وأمنية غير مستقرة.

وتواجه الشركات الصينية المملوكة للدولة التي تعمل في أفريقيا انتقادات لاستخدامها العمالة الصينية في المشروعات التي تمولها الحكومة مثل الطرق والمستشفيات بينما تقوم باستنزاف الموارد تاركة القليل للاقتصاديات المحلية.

الرأسمالية الصاعدة من الشرق لم تنجح بعد في خلق الآليات والتكتلات القادرة على مزاحمة الرأسمالية التقليدية

ويقول مسؤولون صينيون إن بكين تعمل على تعزيز دور أفريقيا في مبادرة الحزام والطريق لربط الصين برا وبحرا بجنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا من خلال شبكة بنية تحتية على غرار طريق الحرير القديم.

ويعتقد المتفائلون أن الصين التي خرجت بصورة الدولة المتضامنة قد تنجح في تحويل مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) إلى كتلة اقتصادية وسياسية مزاحمة لقمة السبع أو العشرين، كما قد تنجح في تأسيس صندوق أو بنك داعم لخياراتها وقادر على توفير الأموال الضرورية لخيار الأحزمة الجديدة التي تبنيها.

لكنهم يرون أن التبشير ببناء عالم جديد برأسمالية معدلة تعطي الأولوية للبعد الاجتماعي والإنساني أمر قائم على العواطف وإسقاطات من بقايا الزمن القديم الذي يستبطن أن الصين ما تزال قوة اشتراكية، مع أنها لم تحتفظ من ذلك الزمن سوى بالقبضة الحديدية للسلطة مقابل إطلاق يد الرأسمالية في مختلف المجالات، فهي بالنتيجة رأسمالية بغلاف سياسي اشتراكي ليس أكثر، وإن اختلفت مع الرأسمالية الغربية في أدواتها الناعمة خاصة في البلدان الباحثة عن التخلص من قبضة صندوق النقد أو البنك الدولي وشروطهما المجحفة.

ويقول برانكو ميلانوفيتش، الباحث في مركز ستون بجامعة نيويورك، إن “الرأسمالية السياسية” تظهر عندما تعتمد حكومات استبدادية في اكتساب الشرعية على قدرتها على تعزيز النمو الاقتصادي، بما يوفر الدافع لتطبيق إصلاحات السوق الحر.

قبضة الرأسمالية

لا يبدو أن الرأسمالية ساعية لإظهار أي نوع من التضامن مع ملاعب نفوذها واحتكارها سواء أكانت دولا وازنة أو دولا صغيرة، ففي الوقت الذي كانت فيه إيران تغرق في مواجهة هجوم كورونا الذي لم يكن قد وصل بعد إلى الولايات المتحدة، لجأت إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بخمسة مليارات دولار لتقوية قدرتها على خوض الحرب الأكثر تحديا وإحراجا منذ ثورة الخميني، اكتفى الصندوق بالقول إنه يدرس الملف بانتظار ضوء أخضر من واشنطن.

وفي ظل الصرخة الإيرانية المدوية، أراد الصندوق أن يثبت أنه أداة سياسية فعالة بيد الولايات المتحدة قبل أن يكون أداة ارتهان اقتصادي معولم.

وبالتوازي مع ذلك بادرت الولايات المتحدة إلى سن عقوبات إضافية على إيران بسبب برنامجها النووي، وظهر وزير الخارجية الأميركي ليقنع العالم أن النظام الحاكم في إيران قد أتلف أمواله في دعم المجموعات الحليفة في المنطقة وأهمل قطاع الصحة، مع أن العالم لا ينظر في الوضع الراهن سوى إلى اليد الممدودة لإنقاذه، وهو ما عملت على تسويقه الصين وروسيا في مقابل صورة أميركية لا تتخلى عن رأسماليتها القبيحة التي تمتص الضحايا على أي حال كانوا.

وفي قلب محنة كورونا، استمر صندوق النقد في تقديم “النصائح” إلى 12 دولة من الشرق الأوسط استنجدت به لإنقاذها. وحث الصندوق في تقرير له حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مواصلة تقديم حزم الدعم المالي والاقتصادي لمنع الأزمة من التطور إلى ركود طويل الأمد مما سيؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة.

وقال جهاد أزعور المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي “من المرجح أن تشهد المنطقة تراجعا كبيرا في معدلات النمو هذا العام”. وأضاف أنّ 12 دولة من المنطقة تواصلت بالفعل مع صندوق النقد للحصول على الدعم المالي، على أن يبت المجلس التنفيذي بشأن الطلبات “في الأيام المقبلة”.

ولا ترى رأسمالية الكوارث، كما يسميها أنتوني لوينشتاين، في الأزمات الكبرى مثل الانهيار المالي 2008 وكورونا 2020 سوى فرصة لمزيد إحكام ربط الاقتصاديات التابعة بالمركز عبر فرض شروط قاسية يتم استثمار الشروط الموضوعية الصعبة لإجبار الدول على تطبيقه خاصة ما تعلق بوقف الدعم الذي تقدمه غالبية الدول في سياق سياسة شراء السلم الاجتماعي فيما فيه ترى الصناديق المالية الدولية خطوة عبثية تعيق الإصلاحات القائمة على التقشف، فضلا عن مطالبة الدول المتلكئة بتفكيك مؤسسات القطاع العام وفتح الباب أمام القطاع الخاص لإدارتها.

انكفاء العولمة
إ
تهدف الرأسمالية الليبرالية بكل السبل إلى تجريد الدولة القطرية من أسلحتها لتظل مجرد وسيط بين رأسمالية المركز والرأسمالية المحلية التابعة، وتكتفي بتسهيل مهمة الوكلاء المحليين عبر سن القوانين الاستثمارية الداعمة للانفتاح وتدعيم الوضع القانوني للمؤسسات عبر التسهيلات البنكية والتعويضات في حال الكوارث مقابل تخفيف التزامها بحقوق العمال.

واستفادت الرأسمالية المركزية بشكل لا يوصف من سيطرة العولمة كأداة ترويجية لثقافة الاستهلاك ونجاحها في تذويب الخصوصيات الثقافية، لكن قبضة هذه العولمة بدأت بالتراخي مع ظهور الشعبوية في الغرب كموجة شعبية باحثة عن استقلال الأطراف والعودة إلى الهويات المنغلقة.

وستجد هذه الشعبوية تجذرا أعمق بعد أن بان بالكاشف أن العولمة لم تسع إلى تعميم الثقافة الكونية في سياق بناء المصير الإنساني المشترك وتوزيع الفوائد مثل توزيع القيم، ولكن كانت أداة سيطرة للشركات العابرة التي تنتصر لهويتها الأميركية، وأنها حين الأزمات تنكفئ على نفسها وتعمل على حماية المصالح الرأسمالية دون أي تقاسم للخسائر.

وأرسل الإيطاليون أولى شرارات كسر هيمنة العولمة من خلال حرق علم الاتحاد الأوروبي بعد أن انكفأت الشركات الأوروبية والمؤسسات المشتركة إلى بعدها القطري، وباتت معنية فقط بإنقاذ اقتصاديات بلدانها الأصلية.

وينتظر أن تتوسع انتفاضة التمرد على العولمة ليس على المستوى الشعبي فقط، ولكن أيضا على مستوى الشركات التي ستكون مجبرة في المستقبل على التفكير بالمنطق المحلي بالرغم من أنه يتناقض مع هويتها الربحية. كذلك يمكن أن تنتج مأساة كورونا انتكاسة على مستوى المنظرين للعولمة كونها الطريق إلى توحيد الإنسانية حول قيم مشتركة تقوم على العقلانية والمدنية وتقليص نفوذ الهويات المحلية التي طالما أنتجت التشدد والإرهاب والحروب الأهلية في سياق رفض الآخر.

وبالنتيجة، فإننا سنشهد عودة قوية إلى مفهوم الدولة كدائرة منغلقة هدفها الحفاظ على مصالح الشعوب، وكان هذا الخطاب واضحا في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا بعد أن وجدت هذه الدولة نفسها تواجه تسونامي كورونا وحيدة وبإمكانياتها الذاتية وخبراتها العلمية الخاصة.

وفد تدفع هذه العودة إلى استدعاء صورة الدولة من العالم الثالث التي تمسك بقبضة من حديد على كل شيء وتحد من الحريات العامة والخاصة لتثبيت نفوذها، والقفز على الخطوط الحمراء التي أسست لها الرأسمالية الليبرالية، وهي فرضية بدأت تناقش بشكل متصاعد في دول المحنة مثل إيطاليا وفرنسا.

بدأت أفريقيا تشعر بثقل نفوذ بكين ما يخرجها من دائرة الصديق المنقذ إلى دائرة الدائن الضاغط

وغداة إقرار قانون “حال الطوارئ الصحية” الرامي للتصدي لفايروس كورونا المستجد، دخلت فرنسا مجددا منظومة استثنائية تلحظ تدابير تحد بشدة من حرية التنقل والتجمع والمبادرة.

وسارعت جمعيات بينها “لجنة حقوق الإنسان” وبرلمانيون يساريون وقضاة إلى التحذير من “الصلاحيات المفرطة” الممنوحة للحكومة داعين إلى وضع “حدود صارمة” زمنيا على هذه القيود.

ويلفت سيرج سلاما أستاذ القانون العام في جامعة غرونوبل إلى أن “هذا الأمر قد يترك آثارا عميقة على ما يمكن للسلطات العامة فعله على صعيد مراقبة السكان”، مشيرا إلى أن “الإشكالية تكمن في اعتماد هذه الإجراءات بصورة دائمة”.

ويشير الباحث في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية إلى أن “تعميم حالة الطوارئ يجعل الناس يعتادون بعد فترة معينة على المساس بالحريات. هنا يكمن الخطر”.

وبالنتيجة، فإن العالم مقدم على تغييرات تميل إلى الانكماش وانعدام الثقة بعد صدمة العولمة التي لم تكن سوى غطاء لهيمنة أميركية قيمية واقتصادية.

العرب